حقا, كلما اتسعت الرؤية.. ضاقت العبارة وأصبحت عاجزة عن الإلمام بتفاصيل المشهد من فرط تشعبه والاستغراق في الغواية. لقد كانت الكلمة المكتوبة بالأمس رصينة تشع نورا وتضخ التنوير في عقولنا. وكانت الأكثر تأثيرا حين ترقد في حضن كتاب.. حين كانت المكتبة والبيانو يوما ما من جهاز العروس في تلك الأيام, كانت النخوة بخيرها والضمائر في صحوها. لم تكن المعاني الكبيرة قد سحقتها العولمة, وابتلعتها التكنولوجيا في جوفها, حين دخلنا عصر الشاشات( التليفزيون والنت)تفوقنا علميا وانحدرنا إنسانيا, فقدنا بكارة التفكير وصرنا كتلا بشرية تحركنا الكلمة المرئية الأكثر تأثيرا, هذا الزمان! الكلمة المرئية بما حملت علي جناحها وجدت طريقها سهلا, حيث العقول لا تغربل بل تتلقي فقط, وحين أصبح الاتصال بالمتحدث علي الشاشة متاحا علي الهواء باسم ما اصطلح عليه بكلمة( مداخلات) أصبح من العسير أن يتكلم صاحب رأي إلا في حالات نادرة, ذلك أن هذه المداخلات في مجملها مفبركة ومعدة سلفا وبالتالي انتفي هدفها وجوهرها ولم تعد مداخلات بل مداهنات! الناس في مصر دون بلاد العالم تفتح التليفزيون من الفجر للفجر دون توقف, وفي الشهر الكريم يعسكر الناس أمام الشاشات يتلقون, يستقبلون, يضحكون, يبكون, يحسدون, يحقدون, يقلدون, يتصارعون, يحلمون, يحبطون, يشتاقون, يكفرون, يصرخون, يراهنون.. فهذه الشاشات تصنع في النهاية المزاج العام. لهذات صارت الكلمة المرئية الأولي في سباق الكلمة المكتوبة أو المذاعة, بل هي المكون الأساسي للوجدان المصري, ومثلما نكافئ الحصان بقطعة سكر في فمه.. تقف تورتة الإعلان تحت أمر الرابح علي الشاشات.. هذا الرابح لابد أن يكون شهيا ويجيد كل فنون الإغراء من الفخذ الملفوف ببنطلون ضيق إلي مرمطة القيم إلي اللعب في الأعراض إلي الشتائم بالسلوفان أو دون, ويا ويل العقلاء الملتزمين المتزنين الوسطيين في هذه الصفقة فهم خاسرون, لأن الناس تعودت أو للدقة عودناها علي الغريب والمدهش والمثير, فحياة الخائنة أفضل في الرؤية والمتابعة من حياة امرأة شريفة مخلصة لبيتها وزوجها ومتفانية في خدمة أولادها, وهذا النموذج خال من فلفل الدراما الحراق والمرغوب, ولو ظهر برنامج تليفزيوني رمضاني يضم مسابقات فكرية بين شباب المحافظات.. لانصرف عنه الناس.. إنه مهما قدم الفكر في قالب جميل لا يروق للناس لأن الفكر صار بضاعة خاسرة و أولد فاشون. أما برامج صراع الديكة والمصارعة الحرة الحوارية فهي تجذب الناس بعد أن سقيناهم هذا النمط بدليل أن أعلي وقت حصل عليه برنامج تليفزيوني من تورتة الإعلانات كان إنسانيا في القصد والتوجه, وسوقيا في العرض والبث, إنه المزاج العام المختل, ويشاع عن مصر أنها بلد فقير ومن يري هذا الكم الهائل من المعمعة الدرامية مفرمة العقول الشهيرة بالمسلسلات الرمضانية يكتشف أننا في واقع الأمر, بلد مسلسلات لا بلد شهادات, هذا السباق المحموم علي تورتة الإعلانات, أفسد الذوق والمتعة وصار الهم حصريا, متي يعمل الناس في بلدي؟ أي مضمون تنموي لبلد يحارب الجهل والتخلف تبثه الشاشات عبر هذه الساعات الطويلة من الإرسال؟ أما الأنماط القدوة فغرسناها في الإفطار التليفزيوني الحافل بكل صنوف الدراما والحوارات وفبركة المواقف السيئة بهدف الإضحاك؟ المحزن أن الكتاب ما عاد مصدرا للمعرفة والإذاعة وهن صوتها ولم يعد سوي التليفزيون المصدر الوحيد المؤثر ولكن هذا الأخير ركبه عفريت الإعلانات وصار الإعلام اعلانا! إن الطرق المؤدية إلي قنوات التليفزيون تقف فيها المسلسلات والبرامج الحوارية علي الصفين, واستحال المرور والسيولة الذهنية. ولا أدري تفسيرا لفكرة الحلقات الحوارية المثيرة في شهر رمضان؟ هل لأنه شهر استماع ومشاهدة عالية؟ هل لأن ميزانيات الإعلانات يفرج عنها في رمضان بالذات؟ وهذا الحشد الهائل من الدراما, هل رمضان هو فرصتها الأخيرة في المشاهدة؟ هل يقاطع الناس الدراما بقية شهور السنة؟ فهموني! وعندما ظهرت في برامج رمضانية حرصت علي اختيار كلماتي وحرصت علي الرد بعقلانية مهما يكن السؤال سخيفا, لم أفجر قنابل كلامية يشتاق إليها مذيعو البرامج ورفضت معيار الحلقات القوية! الذي يتلخص في سجال شتائم! وسيظل المزاج العام مختلا, ما لم نطاوع معيار الجودة في البرنامج أو المسلسل, وسيصبح التدني هو الصحيح! هناك لعبة أخري اسمها المونتاج,حيث تسجل البرامج أكثر من الوقت المحدد لها ثم يقوم المخرج والمونتير باختيار أسخن الآراء مهما تكن مفصولة عن سياقها الطبيعي, ولا تهم المعلومة أو الإحاطة بوجهة نظر أو التعليق علي أحداث جارية. المهم هو سخونة الرأي وربما تطرفه! ومن هنا اختلال المزاج العام. ونحن.. البلد الذي يضع الأحذية في الفتارين ويفرش العيش علي الأرض! ونحن.. البلد الذي يسهر فيه الأطفال حتي الثالثة صباحا, وأطفال الدنيا ينامون في الثامنة مساء, ونحن البلد الذي يسهر ناسه أمام الشاشة من طلعة الشمس إلي مطلع فجر اليوم التالي! ويقفز سؤال.. من القادر علي الفرجة علي هذا السيل, بل السيول المنهمرة من الصور علي شاشات التليفزيون؟.. ومتي ينتج الناس في هذا البلد؟.. من المؤكد أنها عادة رمضانية.. ولكن ألا نتوقف عند عبودية بعض عاداتنا؟ فهموني! فاصل, ولا أحب أن أتواصل بعد الفاصل!