بعد إسقاط الخلافة وتقسيم العالم الإسلامي إلي دويلات وصنع حدود جغرافية واقتصادية وفكرية وأيديولوجية بين الدول العربية والإسلامية، كانت الفكرة الملحة هي مقاومة الاستعمار ومن ثم نشطت الحركة الوطنية بمختلف فصائلها المتنوعة وبزغت رموز قادت تلك الحركة وألهبت مشاعر الوطنية ضد الاحتلال فعرفنا محمد رشيد رضا ومجلته الشهيرة المنار التي أسسها عام 1898 ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي وعبد الله النديم ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وحسن البنا . وفي ليبيا قاد عمر المختار حركة المقاومة ومن بعده السنوسي، وفي الجزائر كانت ملحمة المقاومة وفي شمال أفريقية كلها، وفي الشام وهكذا في سائر الوطن العربي . ثم خلف من بعدهم خلف رأوا في الجيش أملاً في التخلص من بعض أنظمة الحكم التي كانت قائمة توطئة للاستقلال وطرد المحتل، وهكذا نشأت في مصر حركة الضباط الأحرار بزعامة البكباشي جمال عبد الناصر وكانت موقعة انتخابات نادي ضباط القوات المسلحة التي أدت إلي سقوط مرشحي القصر وفوز مرشح الحركة اللواء محمد نجيب هي الشرارة التي أدت إلي التعجيل بقيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952. والذي لا شك فيه أن حركة الجيش المصري بقيادة الضباط الأحرار والتي تمكنت من طرد الملك فاروق آخر ملوك أسرة محمد علي من مصر ثم إعلان الجمهورية كانت مصدر إلهام لكل حركات التحرر الوطني في العالم العربي، وأصبحت الجمهورية المصرية نموذجا يحتذي لزعماء الثورات في كثير من الدول العربية، خاصة أن الضباط الأحرار في مصر بعد نجاح حركتهم واستقرارهم في الحكم عمدوا إلي تصدير الثورة إلي بعض الدول العربية التي تكافح الاستعمار والتي حصلت علي استقلالها وكانت تجربة الوحدة مع سوريا بكل مرارتها ثم كانت التجربة اليمنية التي كبدت مصر الكثير والكثير من دماء أبنائها وسمعتها واقتصادها. وتمكن الثوار من إعلان الجمهوريات في كثير من الدول العربية بعد مصر في سوريا ولبنان ودول شمال أفريقية تونس والمغرب والجزائر واليمن وغيرها بينما استقرت ملكيات وإمارات الخليج علي نظمها بعد الاستقلال. كانت مطالب الثوار أو طموحاتهم كبيرة وكانت آمال الشعوب فيها أكبر، ومن خلال الشعارات الحماسية التي تدعو إلي تطهير البلاد من الإقطاعيين وتصحيح مسيرة الأحزاب السياسية تم تكريس الاستبداد والحزب الواحد بإلغاء الأحزاب واعتقال زعمائها وتقنين حزب واحد هو حزب السلطة الاتحاد الاشتراكي والاتحاد القومي والتنظيم الطليعي ومنظمة الشباب وغصت السجون بمئات المعارضين وصودرت الأملاك، كثير من هذه المبادئ في جوهرها عدل، لكن المشكلة الحقيقية أن الثوار أو ورثتهم تحولوا هم إلي إقطاعيات جديدة فملكوا الثروة واحتكروها وانفردوا بالسلطة أيضا، وكمموا الأفواه ومارسوا التعذيب والإذلال والقهر لمواطنيهم، ثم بعد فترة وحينما اضطروا إلي إجراء بعض التحولات التي اضطرتها إملاءات إقليمية أو دولية سمحوا بوجود أحزاب صورية وانتزعوا منها قدرتها علي المنافسة وحصروها داخل مقرات غير قادرين علي تجاوزها، وفي مصر مثلا انتقل إرث الاتحاد الاشتراكي إلي حزب السادات الذي يحكم ونشأ ليحكم وسموه حينها حزب مصر الاشتراكي الذي تحول فيما بعد إلي الحزب الوطني الديمقراطي وآلت إليه المقرات والميزانيات وحتي الأفراد والكوادر والزعماء أيضا، ثم أصبحت سمة تلك الجمهوريات هي توريث الحكم الجمهوري من الداخل. كل هذه المشاهد دارت برأسي واسترجعتها في مخيلتي وأنا قابع في سيارتي الأسبوع الماضي لمدة تجاوزت الساعة في ضاحية مدينة نصر شرق القاهرة لا أستطيع أن أبرحها وبالكاد تحركت متوجها لمحكمة جنوبالقاهرة لأؤدي عملي وقبيلها توقفت مرة أخري فالرئيس كان يفتتح متحفاً قديم جدا تم طلاؤه لإعادة افتتاحه من جديد ، وأسمع آهات الناس في السيارات المجاورة ودعوات ركابها علي المتسبب في هذه العطلة التي تحول دون قضاء أصحاب المصالح مصالحهم، يقطع فكري أحيانا صوت قائد السيارة المجاورة هو الريس فين النهاردة ولا ينتظر جوابي؟ بينما يحاول قائد سيارة أخري أن يبحث عن منفذ أو ثغرة ينفذ منها عائدا أو باحثا عن طريق آخر فيأتيه صوت آخر لا تحاول كل الطرق مغلقة؟ ونزل أصحاب السيارات من سياراتهم يسخطون ويصرخون حتي يضيع صراخهم ويأتينا صوت من بعيد دا السادات كان أرحم كان بيستخدم الهليوكوبتر في تنقلاته وبعد أن تخطت عقارب الساعة خمساً وسبعين دقيقة جاء الفرج وبدأت رتل السيارات يتحرك دون أن نعرف فيم الوقوف وكل الذي توقعناه أن هناك تشريفة !! وما أكثر التشريفات التي تضيع أوقات الناس ومصالحهم ساعات طوال تحجب الناس عن مصالحهم وأعمالهم بل ربما تعرض البعض لمخاطر تحدق بحياتهم من المرضي والحوامل والمسنين ، وبعد افتتاح سيادته للمتحف التحفة صناعة صاحبنا فاروق حسني توجه ركب الرئيس لافتتاح كوبري صفط اللبن. والمؤكد أننا نتفهم ضرورة تأمين سيادته وأن استعادة أثارة من الماضي يرددها الناس عبر قرون طويلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر) قد لا تكون مناسبة لاختلاف الأحوال والظروف وشيوع الظلم والمفاسد كما فسدت ذمم الناس وكثرة المتربصين أو المتآمرين بأهل السلطة، لكن ألا تستحق مصالح الناس وعامة الشعب الذين يمتطون سياراتهم الخاصة أو أتوبيسات النقل العام أو سيارات النقل الخاص في طريقهم لأعمالهم أو مصالحهم وكل له أهميته في حياته، أن تقتصر تلك الإجراءات الشاقة من أجل تأمين موكب السيد الرئيس إلي الفترة التي سيمر فيها الموكب بالفعل ويتحرك، وأن منع حركة الناس قبل مرور الموكب بساعة فيه تغول علي حريات الناس وكرامتهم واستهانة بمشاعرهم؟ المؤكد أن السيد الرئيس لا يعرف بما يعانيه عامة الشعب من أمثالي ولا يبلغه قادة حرسه أو المسئولون عن أمنه بحقيقة الإجراءات التي تتخذ وتتسبب في ضجر الناس وسخطهم ومن ثم يرتفع الدعاء من قلوبهم قبل حناجرهم وصدق رسول الله «اتق دعوة المظلوم». الذي استلفت نظري أيضا هو تشابه مواكب الرؤساء في جمهوريات بلادنا العربية من حيث الأهمية الأمنية وتقييد حركة الشعوب وتعطيل سير المواصلات كل ذلك قاسم مشترك في الجمهوريات العربية التي قامت أصلا لتخلصنا من كل هذا، بينما نذهب إلي ممالك وإمارات في عالمنا العربي فنجد الملوك والأمراء يمرون دون أن يشعر بهم أحد بل ويتسوقون أحيانا في الأسواق مترجلين وهو أمر يحتاج إلي توقف وتأمل ولله في خلقه شئون، أما عن مواكب الرؤساء في أوروبا والولايات المتحدة فحدث ولا حرج لأن حق المواطن وحريته مقدم علي حق الرؤساء افهموها بقي.