ممنوع الاقتراب لكن التصوير مسموح! لا تندهش فالاقتراب من إمام الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم والوصول إلي مكانه ومكانته وكماله مستحيل، فكل صيغ المبالغة الموجودة في اللغة العربية لا تعطينا سوي صور من حياته لندرك أن كلمة استثناء خلقت من أجله، فهو استثناء ليس له قاعدة وأصل لن تجد له نسخة مشابهة ومعجزة إلهية وإنسانية. أتحدث هنا عن عبقرية محمد بن عبد الله الرئيس الأعظم والزوج الأمثل والقائد السياسي الأذكي والإداري الأمهر وصاحب الابتسامة الأجمل.. إنه الرسول الذي لا نعرفه والرجل الذي ليس كمثله رجل، والنبي الذي لن تجد له وصفاً يليق بكامله سوي ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها «كان خلقه القرآن» هل يمكن تصور ملامح شخصية خلقها القرآن خاصة أنه كان من يقول هذا هي الزوجة! لا أعتقد، فالنبي صلي الله عليه وسلم كان وسيظل النموذج الأمثل والأكمل والأتقي والأروع والأخلص والأفضل والأجل والأعظم للرجل حتي تقوم الساعة. وبالتالي لم يكن غريباً أن يقول عنه الشاعر حسان بن ثابت الصحابي الجليل: خلقت مبرأ من كل عيب.. كأنك قد خلقت كما تشاء فخيراً منك لم تر قط عيني.. وخيراً منك لم تلد النساء حاولنا أن نصل إلي صور مختلفة لسيدنا ومعلمنا وقدوتنا محمد رسول الله لذلك ذهبنا إلي صورة محمد الإنسان التي لا تقل عظمة عن صورة محمد خاتم المرسلين لكن الفرق بين الصورتين أن الأولي قابلة للتطبيق والثانية غير قابلة للتكرار. 1-محمد الرئيس النبي أكثر رجل مشاورة لأصحابه وكان حب التابعين شرطا من شروط الحكم«أتت عجوز إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت - المرأة - تبكي، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: أخبروها بأنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله يقول: «إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكاراً عربا أتراباً» لا أتحدث هنا عن محمد إمام الأنبياء والمرسلين، لكني أتكلم فقط عن محمد الرئيس الذي لا وجه للمقارنة بينه وبين كل الرؤساء الحاليين والسابقين، لأن محمد الرئيس هو محمد الصديق الأكبر لمرؤوسيه مع استطاعته أن يعتز بكل ذريعة من ذرائع السلطان،فهناك الحكم بسلطان الدنيا. وهناك الحكم بسلطان الآخرة. وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة، وتلك كلها كان لمحمد الحق الأول فيها: كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون، وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به أتباعه ولكنه لم يشأ إلا أن يكون الرئيس الأكبر بسلطان الصديق الأكبر: بسلطان الحب والرضا والاختيار. فكان أكثر رجل مشاورة للرجال، وكان حب التابعين شرطا عنده من شروط الإمامة في الحكم بل في العبادة، فالإمام المكروه لا ترضي له صلاة، وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه، فروي أنه كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال الرجل: يا رسول الله علي ذبحها، وقال آخر: وعلي سلخها.وقال آخر: علي طبخها. فقال الرسول «وعلي جمع الحطب» فقالوا يا رسول الله: نكفيك العمل قال: «علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم، إن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه». هذا هو محمد الرئيس الذي لا مثيل له في الحكم، فعندما سمع نزاعا بباب حجرته خرج قائلا: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها بحقها أو ليتركها» فقد كان محمد الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرؤوسين وليست للموافقين منهم دون المخالفين فيأمر قومه «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنها ليس دونها حجاب». 2- النبي ضاحكا تحكي كتب السنة لنا ما دار بين النبي - صلي الله عليه وسلم - وزاهر بن حرام، وكان من الصحابة الذين يبعثون الهدايا للنبي - صلي الله عليه وسلم -، ولندع أنساً - رضي الله عنه - يروي لنا هذه الدعابة: عن أنس - رضي الله عنه -: «أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي - صلي الله عليه وسلم - الهدية من البادية، وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - يحبه وكان دميماً فأتاه النبي - صلي الله عليه وسلم - يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت، فعرف النبي - صلي الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلي الله عليه وسلم - حين عرفه، وجعل النبي - صلي الله عليه وسلم - يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً، فقال النبي - صلي الله عليه وسلم - لكن عند الله لست بكاسد أنت غال، وفي رواية: أنت عند الله رابح». حتي الأطفال كان - صلي الله عليه وسلم - يمازحهم ويشاركهم لعبهم: فروي عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يصف عبدالله وعبيد الله وكثير بن العباس ثم يقول: «من سبق إلي فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون علي ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم». ويحكي لنا أسيد بن حضير ما حدث بين النبي - صلي الله عليه وسلم - ورجل منهم: يقول أسيد: «بينما رجل من الأنصار يحدث القوم وكان فيه مزاح بيننا يضحكهم، فطعنه النبي - صلي الله عليه وسلم - في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، فقال: أصطبر، قال: إن عليك قميصاً وليس علي قميص، فرفع النبي - صلي الله عليه وسلم - عن قميصه فاحتضنه وجعل الرجل يقبل كشحه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله». كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - متواضعاً منبسطاً مع عامة المسلمين علي اختلاف منازلهم، فتحكي السيدة عائشة - رضي الله عنها - ممازحته لعجوز من الأنصار فتقول: «أتت عجوز إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت - المرأة - تبكي، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله يقول: «إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكاراً عربا أتراباً». وفي موقف آخر كان الصحابي الجليل صهيب - رضي الله عنه - مريضاً وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - يمازحه ويخفف عنه، وهذا ما جاء في هذه الرواية وإليك نصها: قال صهيب: «قدمت علي النبي - صلي الله عليه وسلم - وبين يديه خبز وتمر، فقال النبي - صلي الله عليه وسلم -: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال النبي - صلي الله عليه وسلم -: تأكل تمراً وبك رمد؟ قال: فقلت: إني أمضغ من ناحية أخري، فتبسم رسول الله صلي الله عليه وسلم». 3-الرسول زوجًا سُئل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فقيل: من الرجال؟ فقال: أبوها قيل: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعدّ رجالا. لا أعتقد أن هناك زوجا يعيش في العالم الإسلامي الآن إذا سئل أمام الناس من أحب الناس إليك؟ سيقول زوجتي ولن يذكرها باسمها ولو فعلها فمن المؤكد أنه سيقولها ساخرا ولو قالها صادقا سيتم التعامل معه باعتباره استثناء. ولم يتوقف حنان محمد الزوج عند هذا الحد بل إنه كان يقول صلي الله عليه وسلم «حُبب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة». وكان صلي الله عليه وسلم يقطع ملل الحياة الزوجية ببعض المزاح للترفيه عن أهله، فقد ورد أنه صلي الله عليه وسلم كان يسابق بعض زوجاته.. فعن عائشة - رضي الله عنها - «أنها كانت مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في سفر، وهي جارية، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، فسابقته، فسبقته علي رجلين، فلما كان بعد، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم، فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله، وأنا علي هذه الحال؟ فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة». ومن بين المواقف التي تكشف لنا عن روعة محمد الزوج، حين جاءته زوجته السيدة صفية تزوره في اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لتذهب، فقام النبي - عليه الصلاة والسلام - معها ليودعها إلي الباب، وفي رواية أخري أنه قال لها: «لا تعجلي حتي أنصرف معك». النبي لم يطلق زوجة من زوجاته قط بل كان يكره ضرب النساء ويعيبه كما قال: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؟.. يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» فما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فإنما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره لذلك كان يفضل الرسول عقوبة الهجر الطويل أو القصير بعد العظة والعتاب الجميل. والهجر عقوبة نفسية بالغة ولا تقل عن الضرب تأثيرا لكنها ألين. ويكفي رسول الله ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها أنه صلي الله عليه وسلم قال لها: «ما أبالي بالموت بعد أن عرفت أنك زوجتي بالجنة» لذلك كان بديهيا أن يتعلم منه حين قال «ابن عباس»: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي وما أحب أن أستطف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليَّ. 4-السياسي لم يكن النبي الكريم رسولا لأشرف رسالة فقط لكنه كان أيضا سياسيا من لا مثيل له وأكد أنه أفضل من أجاد كسب المعارك السياسية في التاريخ، وأبرز مثال علي ذلك هو صلح الحديبية، فقد كانت أول عمرة للمسلمين في مكة ويومها قدم النبي - صلي الله عليه وسلم - المثل الذي يبين أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة، فلا هو يركن إلي السيف وحده ولا إلي السلم وحده، بل يضع كليهما حيث يوضع ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، فقد خرج النبي إلي مكة في رحلة الحديبية حاجا لا غزيا يقول ذلك ويكرره ويقيم عليه الشواهد لمن سأله ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح. خرج النبي في شهر من الأشهر الحرم، ومعني ذلك أنه لن يحارب، إلي جانب أنه لم يخرج إلي العمرة بالمسلمين وحدهم، إنما خرج ومعه وفود من القبائل المحيطة بالمدينة من غير المسلمين كانوا يرغبون في أداء العمرة - إذا كان خارجا للحرب فإنه كان سيخرج بالمسلمين فقط -وهذا يدل أيضا علي أن النبي قادر علي التعايش مع غير المسلمين طوال الرحلة المضنية من المدينة إلي مكة، فإذا ما منعت قريش محمدا ومن جاءوا معه من أداء العمرة، فإنها تكون قد منعت العرب، وليس المسلمين وحدهم، من أداء شعائرهم الدينية. إنه صلي الله عليه وسلم كان يجبر «قريش» علي الرضوخ للسلام، وكان يستطيع أن يحشد جيشا للقضاء عليهم، لكنه لم يكن هناك داعً حقيقي للجهاد وفي النهاية استطاع إجبارهم علي الصلح بقدرته السياسية، فلم يتعامل معهم كنبي والدليل أنه عند كتابة التفاوض لم يمانع ألا تتم كتابة اسمه «محمد بن عبد الله» بدلا من «محمد رسول الله» ولم يصر علي كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» بل وافق علي كتابة «باسمك اللهم» ليتحقق له في النهاية ما أراد. 5-العبقرية الإدارية عبقرية محمد الإدارية لا تحتاج سوي أن نذكر موقفا واحدا فقط - قبل أن يبعث إماما للمرسلين - حين اختلفت القبائل علي من منها يضع الحجر الأسود في مكانه وهو شرف لن تتنازل عنه قبيلة لأخري، بل إنهم قرروا أن ينتظروا حتي يأتي من يرضون بحكمه، هنا دخل عليهم من يعرفون أنه يثقون فيه ويعلمون أنه الصادق الأمين وبمجرد أن علم باختلافهم أشار عليهم بالرأي الذي لا رأي غيره فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم قبيلة في طرف من أطرافه حتي إذا وصلوا لموضع الحجر حمله هو ووضعه بيديه الشريفتين لتتجلي عبقريته في الإدارة قبل أن يأتي إليه الوحي.