حدثان متزامنان لبناء دور للعبادة أحدهما للمسلمين في نيويورك والثاني للأقباط المسيحيين في مغاغة وراء كل منهما حكاية توضح البون الشاسع بين التمدن والتخلف، بين التسامح والكراهية، بين الحريات الدينية والاضطهاد الديني، بين الانفتاح والانغلاق، بين الحداثة والأصولية. مدينة نيويورك واحدة من أهم مدن العالم إن لم تكن الأهم علي الإطلاق، توصف بأنها عاصمة الرأسمالية والعولمة، وهي أكبر مدن العالم فيما يتعلق بالتنوع الديني واللغوي والعرقي. مدينة مغاغة هي مدينة صغيرة في صعيد مصر يندر أن يسمع بها أحد في العالم الخارجي، بل والكثيرون في مصر ذاتها لا يعرفون أين تقع مدينة مغاغة هذه. اقتصاد ولاية نيويورك يبلغ 1158 مليار دولار لعام 2009، واقتصاد مصر كلها يبلغ 162 مليار دولار وفقا لأرقام 2008 المتوفرة. عمدة مدينة نيويورك مايكل بلومبرج رجل أعمال بارز متطوع لخدمة بلده وراتبه دولار واحد في الشهر حسب طلبه، المسئولون في مصر لا يعرف أحد دخولهم الحقيقية ببساطة لأن مصر مصنفة من أعلي دول العالم في معدلات الفساد.. تعالوا نستعرض حكاية المسجد والكنيسة باختصار. حكاية مسجد نيويورك إمام مسجد كويتي مهاجر إلي أمريكا اسمه فيصل عبد الرءوف يدير مسجداً افتتحه عام 1990 ويقع علي بعد عشر بنايات من موقع مبني مركز التجارة العالمي الذي دمر في 11 سبتمبر والذي يسمي الآن جراوند زيرو، هذا الإمام أدلي بتعليقات شامتة بعد حوادث 11 سبتمبر قال فيها: «إن سياسات الولاياتالمتحدة كانت عاملاً مساعداً للجريمة التي حدثت». تتلخص قصة الإمام عبد الرءوف في أن المسجد الذي يديره ضاق بالمسلمين خاصة في صلاة الجمعة وهو يريد بناء مسجد أكثر اتساعاً علي حد قوله، فتقدم لبلدية مدينة نيويورك ببناء مسجد علي أنقاض مبني قديم يقع علي بعد بناية واحدة من موقع الجراوند زيرو، ولهذا سمي هذا المسجد في وسائل الإعلام الأمريكية «مسجد جراوند زيرو»، أما الإمام عبد الرءوف فقد اختار اسماً تاريخياً للمسجد له مدلوله في التاريخ الإسلامي وهو مسجد قرطبة ضمن مشروع دار قرطبة، تيمناً بفتح المسلمين للأندلس وبنائهم مسجد قرطبة الشهير هناك. وافق مجلس بلدية نيويورك بالإجماع علي بناء المسجد «12 موافقون، صفر معترض». قوبلت موافقة مدينة نيويورك علي بناء المسجد باحتجاجات قادتها جماعات محافظة معللة ذلك بأن بناء المسجد يجرح مشاعر عائلات ضحايا 11 سبتمبر، قادت هذه الاحتجاجات باميلا جيلر، وهي ناشطة محافظة، ومارك وليامز المتحدث باسم حركة تي بارتي، وهي حركة سياسية محافظة لها نشاط دائب وصوت مسموع في أمريكا كلها. ودخلت علي الخط «سارة بلين» المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس والمعلقة التليفزيونية حالياً والتي تحلم بالترشيح للرئاسة في الدورة المقبلة، حيث خاطبت السيدة بلين المسلمين في أمريكا قائلة «نرجوكم أن تتفهموا مشاعرنا، إن بناء مسجد في جراوند زيرو استفزاز غير ضروري، وسيترك حرقة في القلب، نرجوكم ألا تقدموا علي هذه الخطوة لتهدئة النفوس» وطالبتهم باختيار موقع آخر لبناء المسجد، ودخل علي خط المحتجين أيضاً بعض الشخصيات المعروفة في الحزب الجمهوري مع سارة بلين مثل نيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب الأسبق وريك لاتسيو مرشح الحزب الجمهوري الحالي لمنصب حاكم ولاية نيويورك. نظم المحتجون العديد من المظاهرات ويخططون لمظاهرة كبري في 11 سبتمبر المقبل في موقع الجراوند زيرو، وحاولوا نشر إعلان عدائي ضد بناء المسجد ولكن كل التليفزيونات الأمريكية رفضته بالإجماع، فتقدموا لبلدية نيويورك باعتبار أن المبني القديم الذي سوف يقام المسجد علي إطلاله هو موقع أثري حيث إن المبني مشيد علي الطراز الإيطالي منذ 1857، أي مر أكثر من 150 عاما علي تشييده في محاولة أخيرة منهم لوقف بناء المسجد بطريقة قانونية. يوم 3 أغسطس وافقت هيئة الآثار في مدينة نيويورك بالإجماع «9 نعم صفر لا» أيضاً علي رفض طلبهم والسماح للمسلمين بالبدء في هدم المبني القديم ومن ثم إقامة المسجد الجديد.. وكان من أشد المؤيدين لبناء المسجد عمدة المدينة مايكل بلومبرج حيث قال: «إن مدينتا تمثل ما ترمز إليه الولاياتالمتحدة من انفتاح وتسامح ديني، وأملي أن يساعد المسجد في التقريب ما بين سكان مدينتنا وأن يساعد في دحض الفكرة الزائفة والكريهة بأن هجمات 11 سبتمبر تتفق بأي حال مع الإسلام». كما وقفت عدد من الكنائس المسيحية وبعض القيادات اليهودية في جانب حق المسلمين في بناء المسجد. الغريب أنه في الجانب المسلم هناك من يعترض علي بناء المسجد بحجج مختلفة، فبعض المحافظين اعتبروا أن ذلك إساءة ومؤامرة علي الإسلام وقال الدكتور عبدالمعطي بيومي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، ل«المصري اليوم» بتاريخ 5 أغسطس: أرفض بناء أي مسجد في هذا المكان، لأن «العقلية الماكرة» تريد الربط بين هذه الأحداث والإسلام، مؤكداً أن الإسلام بريء من هذه التهمة، لأنها «مؤامرة صهيونية» يستخدمها البعض للإساءة للدين. كما أعربت الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، للصحيفة رفضها لبناء مسجد بجوار مركز التجارة العالمي، وقالت: «بناء مسجد علي هذه الأنقاض ينطوي علي سوء نية، وحتي إذا أردنا أن نغمض عيوننا ونغلق عقولنا ونحسن الظن، فأتمني أن تكون خطوة صادقة وليست مؤامرة جديدة ضد الإسلام والمسلمين». في حين اعتبر الكاتب الليبرالي الشيعي خضير طاهر أن «مسجد قرطبة في نيويورك رمز للغزو الإسلامي للمسيحيين» مواصلاً «فكما هو معروف أن مسجد قرطبة الأول تم بناؤه في إحدي المدن الإسبانية من قبل المسلمين بعد أن قاموا باحتلال تلك البلاد المسيحية وقتلوا رجالها وسبوا النساء ونقلوهن إلي البلاد العربية كجواري وخادمات يوفرن المتعة الجنسية لهم، وهذا التاريخ الاستعماري مازال العرب والمسلمون يتفاخرون به ويمجدونه ويعتبرونه رمزاً لقوتهم وعظمتهم ولا يشعرون بالخجل من صفحاته المليئة بالجرائم المخزية!» « إيلاف 18 مايو 2010» . وجب التنويه إلي أن المسجد الجديد سيكون ضمن مركز إسلامي ضخم مبني علي 13 دوراً، وأن مساحة مسطحات المباني تزيد 50 ضعفا عن مساحة مسطح المسجد القديم، وأن بلدية نيويورك لم تفرض عليهم هدم المسجد القديم والذي يقع علي بعد 10 بنايات من المسجد الجديد، وأن الموافقة جاءت بالإجماع، وأن المسجد يتكلف 100 مليون دولار أمريكي لم يسألهم أحد من أين سيأتون بهذا المبلغ الضخم، والذي أتوقع أن يكون قادما من دول البترول. وجب التنويه أيضا أنه في نفس يوم الموافقة علي بناء المسجد، يوم 3 أغسطس، أدانت المحاكم الأمريكية رجلين مسلمين هما رسل دفريتاس وعبد القادر بتهمة التخطيط لنسف مطار جون كيندي بنيويورك، وفي عام 2010 أيضا حاول باكستاني طالباني تفجير أهم ميادين نيويورك وهو ميدان تايم سكوير، وحاول مسلم آخر العام الماضي تفجير كوبري بروكلين الشهير بنيويورك. باختصار في نيويورك، رغم كل هذه الحوادث الإرهابية، انتصر التسامح الديني من أوسع الأبواب فماذا حدث في مغاغة؟. حكاية كنيسة مغاغة علي الجانب الآخر تمثل حكاية كنيسة مغاغة الوجه الآخر المظلم لغياب التسامح الديني، وصفها رئيس تحرير جريدة «وطني» المصرية يوسف سيدهم بأنها تفيض إذلالا وهوانا للأقباط وتكشف بوضوح الغبن والصلف من جانب محافظ المنيا. الحكاية ببساطة أن الأقباط كانوا يقيمون شعائرهم الدينية في كنيسة قديمة متصدعة مساحتها 600 متر مربع، ونظرا لتصدع المبني وخطورته علي حياة المصلين تقدمت الكنيسة بطلب لهدم المبني القديم، مع تقرير اللجنة الهندسية بالمدينة بخطورة المبني علي حياة الناس، وبناء كنيسة جديدة علي مساحة 1200 متر مربع في قطعة أرض مساحتها 4200م مواجهة للمبني القديم. بعد شكاوي واحتجاجات وسنوات من الظلم والتعنت وافق المحافظ علي هدم المبني القديم وبناء كنيسة علي الأرض الجديدة مع استئذانه ببقاء عدة حجرات متهالكة لسكن الأسقف ودورات المياه حتي بناء المبني الجديد. قام الأقباط بهدم الكنيسة القديمة وفقا لشروط عقد الإذلال الذي تم توقيعه بين الطرفين، وعند الشروع في بناء الكنيسة الجديدة رفض المحافظ إعطاءهم تصاريح البناء مما حدا بهم لإقامة الشعائر الدينية في خيمة من الكتان منذ 16 مارس الماضي. المحافظ لا يخجل من قوله علي الهواء مباشرة من أنه تفضل بالسماح لهم بالصلاة في خيمة في لهيب حر الصعيد، وبأنه يريد هدم سور المبني القديم لكي يري المسلمون علي الملأ أن الكنيسة القديمة قد سويت بالأرض تنفيذا لشروط العزبي باشا العشرة الإذلالية لبناء الكنائس، وكأنه في الوقت نفسه يضع العامة كرقباء وشركاء في مذلة الأقباط، ويحرض البسطاء علي مهاجمة الأقباط بمغاغة، أو يدعو العامة للإستيلاء علي أرض الكنيسة القديمة لبناء مسجد فوقها وقد تكرر هذا المشهد كثيرا من قبل المحافظ فشل في الحصول علي الأرض كتبرع ومن ثم جاءته فكرة هدم السور لكي يستولي العامة علي الأرض لإقامة مسجد عليها، ووقتها سيلام الأقباط إذا احتجوا علي ذلك ويتهمون بالتعصب لأنهم لا يريدون مسجدا في مواجهة الكنيسة. المساجد الملاصقة للكنائس في مصر ليست تعبيرا عن الوحدة الوطنية بقدر أنها تعبر عن التعصب الديني، وحيث إنه ممنوع بناء كنيسة علي مقربة من مسجد وفقا لشروط العزبي باشا، فجميعها بنيت بعد بناء الكنائس، ووراء كل مسجد منها قصة عجيبة تروي. محافظة المنيا في عهد هذا المحافظ أحمد ضياء الدين تمثل المحافظة الأسوأ في مصر كلها في حوادث الاعتداءات علي الأقباط وفقا للعديد من التقارير الحقوقية ومنها تقرير المبادرة المصرية للحقوق الفردية عن «العنف الطائفي في عامين» الصادر في عام 2010. حتي كتابة هذه السطور الأزمة قائمة وتعنت المحافظ مستمر، وما زال الأقباط يصلون في العراء. الأسقف يمارس حقه في المواطنة في بلده الذي يسكنه هو وأجداده منذ آلاف السنين، والمحافظ يصر علي معاملة الأقباط كذميين في عصر حقوق الإنسان. ما حدث في نيويورك يعبر عن قمة التسامح الديني وتجلي ذلك في تحلي عمدة المدينة ومسئوليها بروح المسئولية في مواجهة المحتجين، وحرصهم علي أن يتمتع الجميع بحقوقهم الدينية وبحريتهم الدينية حتي ولو كانوا مهاجرين ووافدين علي المدينة. وما حدث في مغاغة يعبر عن التعصب الديني وغياب التسامح، ويوضح أن احتقان الشارع يأتي من أعلي وليس من أسفل، فعلي مدي تاريخ العلاقة بين المسلمين والأقباط كان تسامح الحكام أو عدم تسامحهم هو الأساس في تحريك الفتن والعنف والاضطهاد الديني ضد الأقباط.