كباراً: حال منصوبة بالفتحة بدأنا: فعل وفاعل طبعاً هذا هو الشعار الذي تبناه اتحاد الإذاعة والتليفزيون في الاحتفال بمرور نصف قرن علي إنشاء التليفزيون المصري. والخطأ اللغوي الفاحش الذي يتكرر يومياً عشرات المرات مكتوباً، ومثلها جاريا علي ألسنة من هم رموز الإعلام من مذيعين (فطاحل): "كباراً بدأنا، وكبار سنستمر"، إنما هو يلخص بحق شكلا من أشكال الأداء المصري سواء في الإعلام أو غيره. فهذا هو التقفيل المصري بامتياز. لأنه لا أحد يراجع، ولا أحد يتحري الدقة، ولا أحد يتفاني في التجويد مهما تعددت لجان الجودة وهيئاتها، في الإعلام أو التعليم أو الصحة إلخ...، فالتقفيل في النهاية... مصري. وعودة بسيطة إلي الحفل الكبير الذي أقيم تحت سفح الهرم ستعطيك الإحساس نفسه. فقد قضينا نحو الساعة ننتظر بدء الحفل بعد موعده، ويبدو أن تأخر وصول السيد صفوت الشريف كان السبب. وماذا في هذا يا هذا؟ بضعة ملايين من المشاهدين خلفتم معهم الموعد المضروب؟ طُز. ثم قضينا ساعتين مملتين تُتتابع فيها أسماء المكرمين، ويصعد بعضهم إلي المنصة وبعضهم لا يصعد دون لقطات أرشيفية مثلا لهؤلاء تكسر حدة الملل والإيقاع الرتيب. وكان الأجدي أن يتم تكريم هؤلاء في وقت سابق بحضور المسئولين ويتم التصوير ثم المونتاج ويدخل فيه الأرشيف، ويعرض هذا علي مدي عشر دقائق مثلا خلال الحفل، تنتهي بتسليط الضوء علي مكان مخصص للمكرمين داخل الحفل، فينهضون ويصفق لهم الحاضرون ثم تبدأ الفقرات الفنية. وبمناسبة الفقرات الفنية، تعجبت للغاية من عدم وجود أعمال خاصة بالمناسبة، أوبريت مثلاً يتناول تاريخ ومراحل تليفزيون مصر؟! كانت الفقرات كلها قديمة ومستهلكة، فهل حلت المناسبة فجأة علي رءوس المسئولين فلم يكن هناك وقت لإعداد عمل فني مخصص للحدث الضخم؟ الحسنة الوحيدة، وهي عظيمة حقا، في ما تفتق عنه العقل المسئول للاحتفال بالمناسبة هي إطلاق قناة التليفزيون العربي. وهي بحق واحة خضراء للذكري الجميلة، بقدر ما هي مرآة مهمة لمعاينة حركتنا في التاريخ، وهي للأسف ليست دائما إلي الأفضل. شاهدت مثلا حلقة جميلة من برنامج (الحكم بعد المداولة). وكان المتهم فيها النجم محمود ياسين حين كان في أوج تألقه حوالي منتصف السبعينيات. والبرنامج لا يخرج عن دائرة البرامج التي تستضيف النجوم وتواجههم بأسئلة ومواقف حول أدائهم الفني، وكذلك أدائهم في إدارة موهبتهم. وهذا النوع من البرامج مازال يسود جميع شاشاتنا العربية وعلي رأسها التليفزيون المصري، ولكن مع فارق رهيب في الجودة والجدية والبناء المحكم. فبرنامج (الحكم بعد المداولة) اتخذ لنفسه شكل المحكمة والمحاكمة. فهناك المتهم وهو النجم، وهناك المدعي وهو طارق حبيب، وهناك منصة القضاة وهم ثلاثة من النقاد وأهل الصنعة المحترمين، وهناك الشهود وأصحاب الادعاءات التي تناقش في الجلسة، وهم فنانون وزملاء للمتهم، ثم هناك جمهور حقيقي مهتم وناضج يحضر الجلسة/الحلقة. وبمنتهي الجدية والأناقة ودون الغوص في قضايا تزوجت من؟ وطلقت من؟ دارت حلقة ثرية جدا تناولت أعمال محمود ياسين، وقضايا السينما والمسرح المصري. قارنت هذا ببرنامج قدمه التليفزيون المصري في السنتين الأخيرتين اسمه (مذيعة من جهة أمنية). وفيه ترتدي مذيعة حسناء زياً عسكرياً (لا يشبه الزي المصري) ويحوطها عسكر مدججون بالسلاح والكلاب، ويدخل النجم في حراسة هؤلاء ماشيا بين الزنازين ليجلس أمام حضرة الظابط المذيعة التي تتفنن في معاملته باستهانة وقسوة مصطنعة وتهديده بالعواقب الوخيمة إذا لم يعترف بما أمامها من تهم (ومعظمها جواز وطلاق وسب فلان ونصب علي علان)، ثم تخرج من جنبها فجأة الطبنجة الميري وترزعها علي الطاولة، قبل أن تأمر النجم بالرحيل وألا يريها وجهه مرة أخري! لقد تطورت التقنية، وتفوقت الإضاءة وبرع التصوير، وتوفرت إمكانيات كالديكور والملابس والإكسسوارات بما فيها حتي الكلاب والقردة والأفيال لبعض البرامج، ولكن اندحرت العقول، وتسخف الفكر، واختفت القيمة وهوي المضمون. ولعلي الآن أفهم لماذا يقول المسؤولون إن قناة التليفزيون العربي ستعيش 21 يوما فحسب، قبل أن تعود مع مقدم شهر رمضان الكريم إلي مقبرة المكتبة. فمن المؤكد أن استمرارها سيشكل حرجا لنيف وثلاثين قناة مصرية حالية ليس فيها قناة واحدة أفضل حقاً من قناتي التليفزيون العربي ولو قبل عشرات السنين.