أمضيت عمري كله تقريبًا غير واثق من صحة ودقة المثل الشائع القائل بأن «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، حتي اكتشفت أمس فقط أنني نسيت الأستاذ سيد جارنا تمامًا وأن ذاكرتي أهملت وجوده في الدنيا لأن عينيّ لم تكتحلا برؤياه شهورًا طويلة بدا خلالها جاري العزيز وكأن قوة خرافية اقتلعته واستأصلت شأفته من العمارة ومن المنطقة كلها، فكف مضطرًا عن ممارسة عادة مقابلتي بانتظام وبالصدفة البحتة أمام باب الأسانسير أو علي تخوم بير السلم أو عند سفح جبل الزبالة الأشم المنتصب علي ناصية شارعنا، ثم الدخول معي في هذه الأماكن الرومانسية الرائعة في محاورات ومناقشات ومباحثات مثمرة وبناءة حول قضايا الكون المهمة والتافهة معًا. عمومًا .. عاد سيد بالسلامة إلي قلبي واحتل من تاني مكانه البارز فوق مسرح حياتي، بعدما ألفيته ظهر أمس واقفًا علي باب عمارتنا يتأمل وينظر بعمق إلي نقطة وهمية بعيدة (لأول وهلة ظننتها ذبابة) تسبح في فضاءات عالمنا المعاصر المتخم بالهموم والإشكاليات الفلسفية الصعبة علي كل خلق الله عدا الأستاذ سيد طبعًا، وأصدقكم القول إنني ما إن لمحته واطمأن فؤادي إلي أنه ما يزال حيا يرُزق ويشغل حيزًا معتبرًا من فراغ دنيانا حتي تمنيت أن يظل غارقًا في تأملاته ولا يراني، غير أنه بكل أسف ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد أدركني جاري العزيز واقتنصني كصقر وأنا أحاول أن أنسل وأتسحب من جنبه بهدوء وهتف بي مهللاً: أستاذ فلان .. والله إنت ابن حلال، ده أنا كنت لسه بافكر في سعادتك.. إزي حضرتك وازي الأولاد وكل من عندك .. بخير الحمد لله إزيك إنت يا أستاذ سيد .. عال، نحمد ربنا .. قالها بسرعة ولم يكرر أو يعيد كدأبه معي السلامات والتحيات والسؤالات الطويلة المملة عن الصحة والأولاد، وإنما تابع قائلاً : اقول لحضرتك، أنا كنت لسه بافكر فيك وعهد الله.. فيَّ أنا ولاّ في الذبابة ؟ ذبابة؟ ذبابة أيه سيادتك ؟! لا أبدًا ما تخدش في بالك، قولي كنت بتفكر فيا ليه .. خير إن شاء الله ؟! ح أقول لحضرتك، بس الأول تفتكر سيادتك مين اللي ح يفوز وياخد كأس العالم .. إسبانيا أم هولندا؟! الحقيقة ياسيد بيه أنا آخر واحد في هذه الدنيا ممكن يفتي في الكورة، ده أنا بالكتير أعرف إنها مدورة.. لا.. بس سعادتك برضه ليك نظرة .. شكرًا علي حسن ظنك فيَّ لكن يؤسفني إبلاغك إني ماليش أي نظرة في هذا الموضوع .. ثم إنني لم أر ماتشًا واحدًا من ماتشات المونديال .. مش مهم لكن معاليك راجل صحفي وكاتب وسياسي وحاجات من دي، وعارف الدنيا ماشية إزاي.. لا والله ما اعرف هيه ماشية أصلاً ولاّ واقفة، ثم ما علاقة السياسة و«الحاجات اللي من دي» بالكورة ؟! يعني حضرتك مش عايز تقول لأخوك مين اللي ح ياخد الكأس بكره .. إسبانيا ولاّ هولندا؟! مادمت حضرتك مُصر .. يبقي الصومال في رأيي ممكن تكون فرصتها أكبر من الاثنين.. ها ها .. حلوة الإجابة الدبلوماسية دي، طبعًا.. واحنا ح نروح فين في الناس اللي زي سعادتك .. يا سيدي العفو .. الله يخليهم لك.. ويخليهم لحضرتك، لكن خلينا في المهم .. وهوه اللي فات ده كله لم يكن مهمًا؟! لأ ده كان مجرد تمهيد كده ع الماشي.. ماشي إزاي واحنا واقفين ؟ تحب حضرتك نتكلم في الموضوع واحنا بنتمشي؟ لا علي إيه .. اتفضل. يزيد فضلك ويكرمك يارب.. صمت سيد بعدها وبدا منتظرًا أن أقول له «شكرًا» فيرد عليَّ «العفو أي خدمة» وهكذا حتي يظهر لي صاحب، لكنني قطعت عليه الطريق وقلت له بنفاد صبر واضح: اتفضل يا أستاذ سيد قل لي موضوعك المهم بسرعة .. كلي آذان صاغية.. كنت فقط عايز أسأل معاليك عن «الأخطبوط».. أي أخطبوط فيهم ؟.. الأخطبوط الألماني اللي بيتنبأ بنتائج مباريات المونديال واتحققت كل نبوء.. أه ..ماله ده ؟! ينفع نستورده أو نستورد واحد زيه ؟ واحنا ناقصين .. يعني كل الأخطبوطات اللي عندنا دول مش مكفيينك يا أستاذ سيد، عايز تضيف عليهم واحد ألماني كمان؟! أيوه .. لأن الألماني بيفهم وبيعرف يقرأ المستقبل.. عايز تقول إن الأخطبوطات اللي عندنا حمير وأميين وما بيعرفوش يقروا ولا يكتبو وإنهم حرامية ونشالين فقط لاغير.. قلتها فتبخر سيد من أمامي فورًا وأخذ يهرول مرعوبًا وقد نسي أن في إحدي قدميه عرج خفيفًا لم ألحظ له أي أثر وأنا أتابعه وهو يفلسع حتي اختفي وغاب تماما خلف جبل الزبالة الأشم الرابض علي الناصية.