عندما أزور مكانًا لأول مرة أصبح كالطفل الذي يكتشف شيئًا جديدًا، أتحول إلي عين ترصد وذاكرة تسجل، ترصد عيناي بمزيج من الدهشة والإثارة أوجه الاختلاف والتشابه مع ما تعرفه، وتلتقط وجه التميز والانفراد.. وغالبًا ما تكون الانطباعات الأولي قادرة علي التقاط تفاصيل وملامح تغيب عن أهل المكان الذين تعميهم العادة والألفة عن رصد ما تراه عين الرائي لأول مرة. بعيون تري جنوبالوادي لأول مرة، سحرني النيل كأنني لم أعرفه من قبل، النيل في الجنوب يتمتع بسحر مختلف... فعلي الرغم من زيارة جميع معابد ومقابر الفراعنة بالأقصر وأسوان وإدفو في جولات سياحية تبدأ من الصباح الباكر وتنتهي قبيل المغرب.. ورغم تقديري وإعجابي بعبقرية المصري القديم.. فإن ما سحرني حقًا هو النيل.. هل لأننا مصريون أصبحت لدينا مناعة ضد الانبهار بأية آثار؟. استأثرت مياه النيل والخضرة علي جانبيه والبشر في البرين الشرقي والغربي من مزارعين وصيادين وأطفال بالقدرة علي إبهاري... حتي الأجانب حرصوا علي التقاط كاميرات التصوير عند المرور ببيوت صغيرة وسط أرض زراعية علي ضفاف النيل يقف أمامها الأطفال يلوحون للسفن النيلية المارة أمامهم. النيل في بدايات الرحلة من الجنوب يكون كالشاب العفي متسع الصدر نضر الوجه أزرق المياه وعند الاقتراب من نهاية الرحلة في مدينة القاهرة يبدو كالعجوز الذي تظهر عليه علامات التعب وضيق الصدر، تعكر المياه، وتكدر الوجه كوجوه أهل المدينة التي يخترقها. وكما تتغير ملامح النيل ومياهه وقوته من الجنوب إلي الشمال، تختلف ملامح سكان الجنوب عن الشمال.. وكواحدة من سكان القاهرة (تري مدن الأقصر وإسنا وإدفو وكوم أمبو وأسوان لأول مرة)، لاحظت مدي الندية التي يتعامل بها أهل الصعيد مع السياح من مختلف الجنسيات.. وذلك عكس ما كنت أراه من تزلف وتمسح وإحساس بالدونية وعقدة الخواجة لدي بعض أهالي القاهرة في تعاملهم مع السياح الأجانب. الجنوبي الذي يبيع بطاقات مصورة أو قطعًا فرعونية من الرخام، أو حتي البمبوطي الذي يقف بقاربه الصغير أسفل سفن الرحلات النيلية التي تحمل الأجانب، يتعاملون بندية نادرة مع الأجنبي، يساعدهم في ذلك طلاقتهم في اللغات الأجنبية ا. يعرضون بضاعتهم المتواضعة ويساومون كتجار كبار وليس كمتسولين... ألح بائع علي إحدي السائحات لشراء ما معه من سلع يعرضها عليها، وعندما تحدثت إليه بحدة قائلة إنها لا ترغب في الشراء، ما كان منه إلا أن تحدث إلي زوجها بإنجليزية متقنة قائلاً: إذا تحدثت امرأة إلينا بهذا الأسلوب في بلدنا نقطع رقبتها.! وفي أسفل السفينة وقف البائع في قارب صغير يقذف أكياسًا بها جلاليب وشيلان ومفارش من إنتاج بلدته، يقذفها لأعلي فتصل إلي ركاب السفينة من الأجانب الذين يعجبون بقدرته علي التصويب من القارب إلي أيديهم في أعلي سطح السفينة... ويقف الصعيدي بجلبابه وعمامته وكوفيته الصوف في قاربه الصغير يفاوض ويساوم علي السعر بشتي اللغات وبنطق للكلمات يماثل طريقة نطق أهلها... تحدث البائع إلي سائحة عن سعر شال وعندما خفضت السائحة سعر الشال إلي الربع، زجرها قائلاً: هل جننت يا امرأة؟ وواصل عملية البيع كأنه لم يفعل شيئًا. وإلي جانب الندية والقدرة علي التواصل مع الآخر، اكتشفت أن التاريخ مجدول في حياة الجنوبي اليومية. التاريخ بالنسبة إليه ليس حصة في مدرسة وليس أوراقًا في كتاب وليس رحلة مدرسية إلي المتحف كما يراه أهل مدينتي منفصلاً عنهم ومنفصلين عنه... لاحظت من خلال كل من تعرفت عليهم من أهل الصعيد أنهم متلازمون في حياتهم اليومية مع تاريخهم، فهم يحيونه بشكل يومي ويعيشون معه وداخله وعلي نهجه... يرسم الأهالي علي جدران المنازل رسومًا مماثلة للرسوم الموجودة علي جدران المعابد، ويتحدثون إلينا عن تفاصيل حياة المصريين القدماء كأنهم يتحدثون عن أولاد أعمامهم. وعندما أشار لنا المرشد السياحي إلي فتحات عديدة تشبه الحفر في باطن الجبل الذي يحيط بمعبد الملكة حتشبسوت، وقال إنها فتحات بالجبل حفرها العمال الذين كانوا يعملون في بناء المعبد ليستريحوا داخلها من الشمس والعمل خلال النهار.. مجرد حفر كانوا يحتمون داخلها من القيظ.. وبعد التطلع إلي تلك الحفر الصغيرة المتعددة في باطن الجبل بالمقارنة مع فخامة معبد حتشبسوت، تساءلت: متي سينصف التاريخ البسطاء، متي سيكون لدينا تاريخ يحكي عن الذين بنوا المعابد والذين رسموا ونقشوا وحفروا... تاريخ الناس وليس تاريخ الملوك؟ ورغم الاختلافات فإن الشبه شديد بين المصري القديم والمصري الحديث، وبين المصري في الجنوب وفي الدلتا، فجميعهم رغم شقائهم، لا يذكرهم التاريخ.