كثيرا ما تتردد هذه العبارة في خطاب معظم أهل الريف وذوي الأصول الريفية وخاصة في معرض الفخر أو استدعاء «أصول» لا يجوز تجاوزها. والبارة التي تبدو بريئة ليست كذلك علي الإطلاق إذ تحمل - صراحة لا ضمنا - أولها أننا (أي الفلاحين) أهل الأصول والأخلاق الرفيعة، وهو نوع من التعالي الطبقي علي الفئات الاجتماعية الأخري، ومن المؤكد أن معظمها أكثر ثقافة ووعيا، لكن الفلاحة بحد ذاتها أصبح لها في الوعي العام مكانة أصولها غامضة وحدودها أكثر غموضا! وهذا التعبير الافتتاحي يعني أن الفلاحة المقوم الرئيس للهوية المصرية، وهو حق حصري لها دون المهن الأخري، فآلاف السنين من النشاط التجاري لم تجعلنا «ناس تجار»، والعلاقة الطويلة بين المصريين والبحر لم تجعلنا «ناس صيادين»، وما يقرب من مائتي عام من التعليم وأجيال من المهنيين المتميزين الذين أصبحوا يبلغون الملايين لم تجعلنا «ناس مهنيين»! والدلالة الثانية لهذا التعبير الاحتفائي أن الفلاحة ليست مهنة شأن كل المهن، فلا الطبيب يفتتح كلامه بالقول: «إحنا ناس مهندسين»، ولا الطبيب ولا المدرس......وبالتالي فإن الفلاحة تتحول إلي مصدر لمعرفة المقبول والممنوع والجائز والموافق للأصول والمخالف للأصول، إلي آخر مفاهيم «الشريعة الريفية». والمثير أن هذا الميل نحو الاعتزاز بالأصول الريفية يمتد ليشمل أجيالا من أبناء الريف انقطعت صلتهم تماما بالأرض الزراعية والزراعة، لكن كثيرا منهم علي اختلاف مهنهم ما زال يجد مصدرًا للفخر في أن يفتتح كلامه معك بقوله: «إحنا ناس فلاحين»!. وهذا الاعتزاز الاجتماعي يخفي ما هو أهم وأعمق، فالأرض الزراعية تتآكل والوزن النسبي الذي تشكله الزراعة في الاقتصاد الوطني يقل بشكل ملحوظ لكن الوزن النسبي لفكرة الاعتزاز بالأصل الريفي في تصاعد. ومن ينظر لمجتمع المدن الصغيرة في الوادي والدلتا يكتشف أن مدننا الصغيرة هي مجتمعات ريفية بكل المعاني، بل قد نندهش من حقيقة أن هذه المدن كانت أكثر مدينية قبل 1952. وحال القاهرة لا يختلف عن ذلك كثيرا، فطوق العشوائيات الذي يحيط بها هو في معظمه، طوق من التجمعات الريفية التي لا تعمل بالزراعة. وقد التقيت في كردستان العراق في نوفمبر 2007 المثقف اليساري العراقي المعروف عز الدين مصطفي رسول وناقشته في ظاهرة ترييف المدن العربية فروي لي كيف أن قادة بالحزب الشيوعي الصيني أطلعوه في زيارة علي «مخططات» لخنق كل المدن الصينية بأطواق من التجمعات البشرية ذات الأصول الريفية ل «تذويب» التحول المديني واحتوائه، لإدراكهم أن التحول إلي المدينية من الشروط الموضوعية للتحول الديمقراطي، فهل هناك عمل مخطط في مصر لإجهاض التحول الديمقراطي عبر التحكم في مسار التحولات الاجتماعية؟ وقد روي الأكاديمي الأمريكي والت ج. أونج في كتابه «الشفاهية والكتابية» قصة مشابهة، إذ قام السوفييت في 1931 - 1932 بأهم دراسة علي الإطلاق علي ما يسمي: «التفكير الإجرائي» الدراسة كانت بحثا ميدانيا واسعا علي أشخاص أميين (أي شفاهيين) وأشخاص كتابيين إلي حد ما في أوزبكستان وقيرغيزيا، وقد كشف البحث وجود علاقة قطعية بين الثقافة وبين قبول الديمقراطية وإبداع العلم بل بين الثقافة ودرجة الاستعداد لقبول فكرة «التوحيد»، وطبعا في ظل الثقافة الشفاهية لا مكان لا للديمقراطية ولا العلم. وحسب الأكاديمي الأمريكي فإن نتائج البحث لم تنشر إلا بعد حوالي أربعين عاما!! وهو علي الأرجح نزوع يسيطر علي الأنظمة الشمولية نحو التحكم في التغير الاجتماعي، والبحث المشار إليه كشف عن مفاتيح مهمة في «التغير الاجتماعي». والمدينية كمرحلة تالية للريفية في المجتمعات الزراعية، وللبداوة في المجتمعات البدوية هي خيار اجتماعي/ ثقافي للإسلام، وقد حذر الرسول صلي الله عليه وسلم تحذيرا شديدا من العودة إلي ما قبل مرحلة المدينة (البداوة)، قال صلي الله عليه وسلم: «اجتنبوا الكبائر السبع. فسكت الناس فلم يتكلم أحد، فقال: ألا تسألوني عنها؟ الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرّب بعد الهجرة». (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2244)، قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: «هو أن يعود إلي البادية ويقيم مع الأعراب بعد ان كان مهاجرا. وكان من رجع بعد الهجرة إلي موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد». فهل ينطبق علي «الترييف» ما ينطبق علي «البدونة»؟