علي رجلي دم.. نظرت له ما احتملت علي إيدي دم.. سألت: ليه؟ لم وصلت علي كتفي دم وحتي علي راسي دم أنا كُلِّي دم.. قتلت؟.. وإلا اتقتلت؟ (وأيضًا:) من بين شقوق الشيش وشقشقْت لك مع شهقة العصافير وزقرقْت لك نهار جديد أنا.. قوم نشوف نعمليه أنا قلت يا ح تقتلني.. يا ح اقتلك ما زالت علامات الاستفهام تتواصل حول التعتعتين السابقتين التي وصفهما أغلب من تحمل قراءتهما: مرة بالغموض، ومرات بالتناقض، ويبدو أن عندهم حق. ولمزيد من الإيضاح أقول (ولو أكرر): إن المطروح علي الساحة الآن هو: إما حرب عنترية، لا نضع لها حسابات احتمالات الهزيمة قبل النصر، حرب عمرها الافتراضي شديد القصر، لأسباب لا تتعلق بالحرب ولا بالمحارب، وإنما تتعلق بما لحق الوعي العربي من تشويه وتخدير، وما لحق الاقتصاد العربي من تبعية وغباء، وما لحق السياسة العربية من سذاجة واستعلاء فوق الناس، فضلاً عن غياب العدل وتمادي الاستغلال، حرب في ظروف كهذه هي مرفوضة جملة وتفصيلاً. البديل المطروح علي الوعي العربي، والوعي المصري يقع في بؤرته، هو ما يسمي السلام، ولا أقصد معاهدة السلام (أكرر: التي أيدتُها - وما زلت - ممرورا)، وإنما أقصد هذا الكذب المتمادي أننا: يمكن أن نتآخي مع عدو يحمل لنا كل هذا الاحتقار والتهوين، وهو يحتفظ لنفسه بكل الفخر الآني والتاريخي، والتميز الديني، والقنبلة الذرية وأدوات التجارة والاستغلال، نتآخي معه لأن هذا هو المطلوب من سادة العالم، ليستمروا فيما هم فيه وأكثر، ونستمر نحن فيما نحن فيه وأذل وأدني، والاسم «سلام»، هذا هو ما نبهت عليه وأنا أحاول التفرقة بين اتفاق اضطراري لوقف التقاتل والقتل مؤقتًا، لحين البحث عن وسيلة أخري، أو اختيار وقت آخر، أو الاستعداد لميدان آخر، وبين أن نصبح مع قاتلنا ومُذلنا، سمنًا علي عسل، وهو يدعونا للحاق به - مع فارق السرعة - علي نفس طريقه لنحقق له مآربه وربما نقتات بما يتبقي من فتات يتساقط منه من علم وتكنولوجيا وحقوق إنسان وشوية ديمقراطية. قلت ذلك في التعتعتين السابقتين، حتي إنني أخجل الآن وأنا أكرر الكلام نفسه (تقريبًا). يبدو أن ما جعل الأمر بكل هذا الغموض أكثر فأكثر: أن كلمة ثقافة كلمة ملغزة بتاريخها وحضورها، مع أنني حددت ما أعني بها من وصف للوعي الجماعي (أو العقل الجمعي)، إلا أن أغلب الناس لا يعرفون معني للثقافة إلا بارتباطه بمكلمات المثقفين، أو بوزارة الثقافة، أو علي أحسن تقدير، بالمجلس الأعلي للثقافة. ثم جانب شخصي محرج: فكلما أمسكت بالقلم لأكتب عن «ثقافة الحرب»، وأتوقع أن المتلقي سوف يتلقاها ك: «دعوة إلي الحرب» فيصلني من نفسي (ومن قارئي تخيلاً) هذا التساؤل: هل من حق من هو مثلي، يجلس علي مكتبه المكيف أعلي المقطم، في درجة حرارة 19 والجو في حارة «السكر واللمون» درجة حرارته 38 وفي عزبة القصيَرين 37 وفي صحراء سيناء 40 وفي غزة 35 درجة مئوية، وسط الخراب والدمار والجوع والمهانة، هل من حقه أن يشير إلي احتمال الحرب، ناهيك عن ضرورتها، فضلاً عن حتميتها، ومهما قلت لنفسي (ومن ثم للناس) إن الدعوة إلي التمسك بثقافة الحرب لا تعني إعلان الحرب بهذا الاختزال المخل، فلن يصدق أحد إلا أنها ليست مجرد دعوة إلي شيء فيه حرب وقتل ودماء وجوع ويُتم وخراب وانهيار، حتي للمنتصر، ماذا أفعل إذن؟ ألأني بلغت هذا العمر، وأعيش في ميسرة هكذا، أسمح لنفسي أن أجلس أكتب هذا الكلام علي راحتي هكذا أخجل، وأتردد، لكنني أواصل، فهي أمانة رؤية لا أملك لها حبسا، نعم مرة أخري: أنا أكره الحرب كره العمي - عادي - ولا أرجوها لي ولا حتي لأعدائي، ولو مع غيري، فإلي ماذا أدعو إذن؟ يا عم صلاح يا جاهين، أوحشتنا، هل أجد عندك ما يسهل مهمة أن أشرح كيف أن الإنسان الذي كرمه الله، لكي يبقي مكرمًا، لا بد أن يعيش في قتال شريف طول الوقت؟!! هكذا حضرت الرباعيتين اللتين صدّرت بهما التعتعة، لكن المساحة انتهت، فتأجل الشرح علي المتن. أما شيخي نجيب محفوظ، الذي اتُّهم من أصوات زاعقة قاصرة لم تفهم موقفه من السلام كما ينبغي، فسوف أستنقذ به بدءًا بالرجوع إلي بعض نقدي لعمله: «ليالي ألف ليلة» والذي عنونته بهذا العنوان: «القتل بين مقاميْ العبادة الدم»، وإلي لقاء في تعتعتين متلاحقتين غالبا.