تطل السينما المستقلة بخصوصيتها الشديدة في دور العرض التجارية دون أن تلفت عادة نظر المشاهد العادي الذي يبحث عن المتعة والتسلية كأساس للمشاهدة. الشكل الفني والحالة التجريبية في هذا النوع من الأفلام تضع حاجزاً بين الفيلم والمشاهد الذي يعتبر دار العرض السينمائي مكاناً للترفيه وليس للتفكير، وبالرغم مما تحويه السينما المستقلة من مغامرة وشكل فني متميز وإحساس عال بالقضايا الإنسانية والاجتماعية بقدر ما تظلم في دور العرض التي تستقبلها غالباً في أوقات الفراغ السينمائي التي تعاني فيها دور العرض قلة الأفلام والجمهور، وتشغل الدور قاعاتها بالمتاح من أفلام بحثاً عن استمرارية دوران ماكينة العرض، ويبحث فيلم «هليوبوليس» للمخرج «أحمد عبد الله» عن مشاهد من نوع خاص علي استعداد للمشاهدة بلا شروط مسبقة، وبلا شكل مألوف لعناصر الفيلم مثل البطل والبطلة والشخصيات الثانوية والقصة التي لها حبكة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية. في فيلم «هليوبوليس» نحن أمام حالة درامية خاصة ترصد يوما واحدا في حياة عدد من الشخصيات ينتمون بصورة أو بأخري إلي مكان واحد هو حي هليوبوليس الحي القديم في منطقة مصر الجديدة، اليوم الذي تدور فيه الأحداث بالنسبة للشخصيات يوم عاد للغاية.. يوم سخيف يخفق فيه الجميع في إنجاز مطالبهم البسيطة.. يوم بلا بداية أو تمهيد أو خلفيات. من خلال سيناريو متميز للغاية كتبه مخرج الفيلم «أحمد عبدالله» نري مجموعة من الممثلين يقدمون أدوارا صغيرة بحس مرهف للغاية، «خالد أبوالنجا» في دور إبراهيم الباحث الجامعي الذي يسعي لاكتشاف وتوثيق المكان بالصوت والصورة.. «حنان مطاوع» في دور إنجي الفتاة التي تعيش في عالم خيالي وتوهم أهلها في طنطا أنها تعمل في فرنسا.. «عايدة عبدالعزيز» في دور فيرا السيدة اليهودية التي تعيش في مصر دون أن تكشف عن ديانتها لجيرانها متمسكة ببقايا المكان الذي عاشت فيه عمرها.. «هاني عادل» في دور الطبيب الشاب الحائر بين اللحاق بأهله في فرنسا والبقاء في مصر.. «محمد بريقع» الذي يقدم دورًا صامتًا لمجند يحرس كنيسة بإقناع شديد، ثم مجموعة من الممثلين مثل «عاطف يوسف» و«سمية» وصوت «هند صبري» التي تقدم دور الحبيبة السابقة لإبراهيم.. تتقاطع حياة الشخصيات وتقترب وتتباعد في نفس المكان دون أن يحدث بينهما احتكاك حقيقي. تشريفة رئيس الجمهورية تخرج خطيبين عن شعورهما بعد أن فشلا في الوصول إلي مصر الجديدة لمشاهدة شقة الطبيب الشاب هاني الذي يستعد للهجرة إلي فرنسا.. يتنامي غضبهما وإحباطهما من حالة الجمود التي أصبحا فيها بسيارتهما المعلقة في زحام لا ينتهي.. يشعران أن الحب يتسرب من علاقتهما التي أصبحت مجرد سباق لاهث نحو عش الزوجية، وقد أفقدهما العناء والصعوبات طعم الحب نفسه. الطبيب الشاب الذي يستعد لبيع شقته للخطيبين يفشل في اكمال إجراءات الحصول علي الفيزا من السفارة الفرنسية.. لا يبدو الشاب ملهوفاً علي السفر أو عازماً علي البقاء. وإبراهيم الذي يقوم ببحث يتعلق بالماجستير الخاص به حول المعمار القديم الخاص بحي هليوبوليس.. يلتقي بعجوز يهودية في منزلها تحدثه عن المنطقة القديمة التي كانت من أرقي أحياء القاهرة، يفشل في أن يوثق حوارهما بكاميرا فيديو بعد رفض المرأة بإصرار.. يلتقي بشخصيات حقيقية من الشارع تحكي له تاريخ المكان.. يفشل في إكمال تصوير وتوثيق المكان بعد أن يوقفه ضابط شرطة لأنه كان يصور كنيسة قديمة. موظفة الاستقبال إنجي في الفندق تعيش حلم السفر علي طريقتها، ترسل مساعدات إلي والديها مدعية أنها تعيش وتعمل في فرنسا. المجند الذي يحرس الكنيسة ساعات طويلة يظل ينصت إلي الأغاني القديمة في الراديو الترانزستور ويأنس بكلب ضال، هو شخصية تظهر بلا حوار وتبدو جزءًا من علاقة الشخصيات المتناقضة بالمكان، المكان هنا ليس مجرد خلفية للأحداث، لكنه هو الأحداث نفسها. البعض يحاول الهروب منه بعد أن تغيرت ملامحه مثل الطبيب، لكن هناك أشياء ما زالت تربطه به. إبراهيم يحاول اكتشاف كيف كان المكان قبل أن يصل إلي ما وصل إليه؟! الخطيبان يسعيان للحصول علي شقة الطبيب المهاجر ويفشلان في الوصول في الوقت المناسب. المجند يحرس مكاناً لا يشعر بالانتماء إليه. المكان يحمل جزءًَا من تاريخ المدينة، حيث عاش المصريون والأجانب معاً، امتزجت ثقافة الشرق بحضارة الغرب، ذهب الأجانب مطرودين أو مضطرين حسب تعليق أحد الشخصيات، وبقي القليل منهم ولم يبق شاهداً علي هذه المرحلة إلا مباني قديمة بعضها تهدم وبعضها تحول إلي محلات شعبية بعيدة عن أناقة وجمال طابع المكان القديم. يجمع الفيلم بين الدراما والتسجيلية، هناك كثير من اللقطات والأحاديث مع الناس في الشارع تم تصويرها وتسجيلها مع أشخاص حقيقية، رغم ذلك يظل مود الفيلم رغم شكله التأملي الهاديء أقرب إلي الدراما منه إلي العمل التسجيلي، الغضب والحزن يغلفان العمل الذي نجح «أمير خلف» في التعبير عنه موسيقياً، ونجح المخرج «أحمد عبدالله» في تقديم عمل أول يحمل رؤية خاصة متماسكة. يحمل الفيلم قليلا من ارتباك البدايات، لكنه يحمل أيضا كثيرا من صدقها أيضًا. يخلص الفيلم إلي حقيقة مهمة وهي أن الأشخاص أيضاً تغيروا وليس المكان فقط.. العنف والفظاظة أصبحت لغة الشارع الذي أصبح شكله مشوهاً وأحلام شخصياته مجهضة.