في إحدى أجمل قصائده (ظلام)، كان الدكتور إبراهيم ناجي يصف كيف فعل الحب في نفسه كشاعر، يقول: ذلك الحب الذي علّمنى أن أحب الناس والدنيا جميعا وأراني الكون في أعماقه أعينا تبكي دماء لا دموعا.. هذا البيت الثاني هو ما يطغى على تفكيري في مصر هذه الأيام، فجميع أحوالها لا ترضي إلا أعداءها، وما حدث ويحدث فيها لا يقارن بأي حال بحب إبراهيم ناجي الذي علّمه أن يحب الناس جميعا، ولكنه أراني الكون في أعماقه أعينا تبكي على مصر دماء لا دموعا..
تعلمنا في علوم الإدارة أن حل أي مشكلة، يبدأ أولا بالاعتراف بوجودها، ثم دراسة طبيعتها وأسبابها، ثم استعراض طرق الحل وتقييم كل طريقة، ثم اختيار الطريقة التي نراها الأمثل للحل، ثم تطبيق الطريقة، ثم متابعة ما ينتج عن التطبيق، ثم إعادة تقييم النتائج والطريقة في ضوء ما يستجد من أحداث ومعطيات، حتى نصل إلى حل عملي للمشكلة من جذورها..
ومصر الآن في مشكلة، ولكن أطراف المشكلة الذين بأيديهم مفاتيح الحل؛ لم يتبعوا الأسلوب الأمثل في علاجها، لأنهم ببساطة ليسوا متفاهمين ولا متفقين على أي مما ذكرت من أركان حل المشكلة، فمنهم من لا يرى مشكلة من الأساس، وكل منهم يراها بعينيه هو، من زاويته هو، وبناء على رؤيته يفترض طرقا للحل، تأتي بالطبع غير متوافقة مع رؤى الأطراف الأخرى، وبذلك تجهض احتمالات حل المشكلة في مهدها، ويترك الأمر للشعب؛ صاحب الأمر، ومانح ومانع السلطة لأيٍ كان، والشعب منقسم على نفسه، ويرى أبناؤه الصورة بنفس الطريقة القطبية الحادة، تماما كما يراها عرّابوهم وقادتهم وإعلامهم الذين يتبعونهم، ويؤمنون بأفكارهم..
وتلخيص ما حدث في مصر بأقل الكلمات هو: في 25 يناير 2011، خرج ملايين المصريين دون قيادة – أو هكذا بدا خروجهم للعالم – مطالبين بإسقاط نظام حسني مبارك، وكان ذلك الخروج الكبير تأسيا واقتداء بثورة تونس التي سبقتنا وأطاحت بزين العابدين، وكانت (ثورة) 25 يناير..
رأى بعض أقطاب السياسة من الليبراليين والعلمانيين واليساريين أن الإخوان؛ كممثلين للإسلام السياسي، قد فشلوا في إدارة البلاد عبر عام كامل، تدهورت فيه كل مناحي الحياة في مصر، فعملوا عاما كاملا، بكل جد واجتهاد لإثبات رؤيتهم، واستثمروا في ذلك أخطاء الرئيس مرسي الضخمة، والبسيطة التي ضخموها، ورأي قطاع عريض من المصريين نفس رأيهم، فخرجوا إلى الشوارع والميادين، يطالبون بإسقاط الرئيس مرسي وحكم الإخوان.. وكانت (ثورة) 30 يونيو..
على الجانب الآخر، الإخوان المسلمون يرون أنهم هُزموا في تجربتهم الأولى في السلطة، ورؤيتهم لنهايتهم الحزينة هي أن ما حدث في 3 يوليو هو انقلاب عسكري على الشرعية الدستورية، التي أرست قواعدها (ثورة) 25 يناير، وأتباعهم ومناصروهم يرون نفس رؤيتهم، فنزلوا إلى الشوارع والميادين مطالبين بعودة الرئيس مرسي، ورافضين لما يرونه (الانقلاب العسكري).. وكانت (ثورة) لم نعرف تاريخها بعد..
المهم في هذه (الثورات) الثلاث أن العامل الحاسم في إنهائها؛ على خير للبعض، وعلى زفت للبعض الآخر، هو القوة الوحيدة التي تتحكم في زمام الأمور في مصر؛ الجيش والمخابرات، ومهما حاول البعض تصوير ثمار أي من (الثورات) الثلاث على أنها رغبة الشعب، فلن يستطيع هذا البعض أن يثبت عن أي شعب يتحدث، شعب التحرير أم شعب رابعة العدوية، شعب الاتحادية أم شعب نهضة مصر، شعب الحضر أم شعب الريف، شعب الدخل المحدود والمعدوم، أم شعب هاسيندا ومارينا والسخنة..
لو كان الرئيس مبارك عيّن نائبا له من الجيش في 2005؛ حين (انتخب) أو قبلها؛ لما كنا عرفنا لا ثورة يناير ولا غيرها.. ولسارت الأمور عادية طبيعية كما كانت قبل 2011.
إن معظمنا عزيزي لا يريد أن يفهم أو يعي أن نظرية هربرت سبنسر في أوائل القرن العشرين: البقاء للأقوى والأفضل، هي النظرية المطبقة في عالم اليوم، وبرغم أنها نظرية براجماتية شديدة التحيز للمادية؛ فمن أسف أنها لبّ ما تطبقه أمم الأرض كافة، وهو واقع لا نستطيع – الآن على الأقل – الفكاك منه أو إنكاره، لأن أقوى وأفضل ما في بلادنا هو الجيش، والأحزاب والكيانات السياسية التي قد تظن في نفسها القدرة على الحكم، كلها دون استثناء ورقية رخوة، لا تقدم للشعب إنجازا يُذكر، أو حتى لا تخاطبه بأيديولوجيات ناضجة، فالتجريف السياسي للتربة السياسية المصرية منذ عهد الرئيس عبد الناصر، جعل الساحة السياسية خواء من الشخصيات التي قد تقود الجماهير، وقد يقال عنها أنها أقوى وأفضل..
لقد أنشأ الدكتور نجم الدين أربكان؛ أستاذ رجب أردوغان في تركيا، خمسة أحزاب من عام 1970 حتى توفي عام 2011، وجميع أحزابه حلّها الجيش؛ الأقوى والأفضل في تركيا تلك الأيام، وحين ثبت للشعب التركي أن الحزب ذي المرجعية الإسلامية هو الأقوى والأفضل، بالعمل والإنجاز والنهوض الاقتصادي والاجتماعي؛ انتخب حزب العدالة والتنمية عام 2003، بعد ثمانين عاما من إقرار الدستور العلماني في تركيا !
إن حل المشكلة المصرية لن يكون بالاحتشاد في الشارع في رابعة العدوية وميدان النهضة، والاحتشاد المضاد في التحرير والاتحادية، ولن يكون بشماتة المنتصر في المهزوم في (ثورات) وهمية، أو بمشاهد حفلات الغناء الرقيع احتفالا بانتصار المصريين على المصريين، ولن يكون بالإعلاميين الحربائيين المتلونين الذين يسبون الدين على الشاشات، ولا بإذكاء نار الفتنة بين الناس، ولا بالانتقام والمصادرات والملاحقات القضائية، وهذه الأخيرة ستذكي نار الفتنة إلى حد لا يمكن تصور نتائجه، ولن يعدم من يخططون للفتنة تدبير من يحتاجون من المختلين عقليا، والشاذّين فكريا، أو المتطرفين والإرهابيين من الطرفين، ليقوموا بعملية هنا، أو اغتيال هناك، زجاجة مولوتوف هنا، أو فرد خرطوش هناك، والفاعل متطرف أو إرهابي أو مختل أو شاذ.. وساعتها لا يستطيع أحد أن يتوقع ما قد يحدث..
لهذا عزيزي القارئ أرى عينيّ كأعين كون إبراهيم ناجي؛ تبكيان دماء لا دموعا على مصر هذه الأيام، فاضطراب المشهد مع ضبابية الرؤية، وروح الكراهية التي تولدت بين المصريين، والفتنة التي أطلت برأسها العفنة، ورائحتها الكريهة في ميادين وعلى شاشات مصر، والمشاعر المتضاربة بين أفراد الشعب الواحد تبعا لوجودهم في أي من ميدان يعتصمون، والإعلام الحربائي المتلون تبعا للون المصلحة؛ دولار أو يورو أو درهم، والإعلام الأهبل الذي ادّعى الحديث باسم الإسلام، ولم يخل أيضا من حربائية التلون تبعا للون العملة؛ ريال أو درهم أو دولار، والضحية في النهاية الحزينة هي مصر.. متسلمي يا مصر بقى..