ليس هذا مقالا عن السينما وفضائحها. ليس عن الثورة التي دامت مرحلتها الأولي 18 يوما، وارتكبنا بها أخطاء وليس فضائح. بل هو مقال عن بعض فضائح من يتم تسميتهم بنخبتنا، وكيف يرون الثورة، التي من المفترض أنهم شاركوا بها أو هكذا يزعمون. وربما سيكونون أول المستفيدين منها. شاهدت في مدريد، قبل ثلاثة أسابيع، فيلم “18 يوم”، الذي صنعه مجموعة من السينمائيين المصريين، حول ثورة يناير. وأعترف بداية أننى طوال مدة الفيلم، ساعتين كاملتين، شعرت بالخجل وبالاشمئزاز، مرات كثيرة. الفيلم عبارة عن عشرة أفلام قصيرة، تحمل أسماء عشرة مخرجين من أجيال مختلفة. تبدأ القصص العشرة بفضيحتي أكثرهما شهرة، اثنين من المخرجين ممن كانت لهم أدوار مريبة في الترويج لنظام مبارك، ولجنة السياسات، والدفاع عنهما حتي اللحظات الأخيرة. وأيضا تنظيم الدعاية لمبارك ورجاله في بعض الاستفتاءات والانتخابات الأخيرة. لا توجد أي شواهد عن مشاركة هذين المخرجين في الثورة التي يصنعان فيلما عنها. أقصد تحديدا شريف عرفة ومروان حامد. بينما توجد شواهد علي مشاركة أغلب السينمائيين الآخرين في هذه الثورة، ومخاطرة بعضهم بكل شئ في سياقها. وهنا تكمن أحد جوانب المشكلة التي سأعود إليها لاحقا. شريف عرفة، يفتتح الفيلم، وهو لايبتعد عن سياق الإسفاف الذي قدمه طيلة السنوات الأخيرة، والألعاب الشكلانية التي ليس لها علاقة بالمضمون، ولا تعبر عنه. يتمسك بنظرته المستهزئة بالبشر، والمتعالية عليهم، والتي تختلف عن نظرته في أفلامه الأولي. ويلعب نفس الألعاب السطحية لنتصوره مهموما بمجتمعه وقضاياه. تدور قصته “احتباس”، داخل مصحة نفسية... عنبر يضم أنواعا مختلفة من الشخصيات، تشاهد الثورة، أو بعض لحظاتها عبر التلفزيون. تتفاعل كل شخصية مع ما يحدث بطريقتها، لتصنع عالم ثورتها الخاص، داخل عنبر الأمراض النفسية. ماذا يريد أن يحكي لنا المخرج؟ دون تعسف، أعتقد بأنه يريد لنا أن نشاركه تصوره “الخاص” بأن هذه الثورة هي ثورة المجانين والمرضي النفسيين. نزيل شاب واحد فقط، هو المخلص لها. بينما الآخرون ممن يشاركون بها، هم إما مختلون أو انتهازيون، باحثون عن المكاسب. يا سلام علي بداية فيلم ثوري!!! ماذا عن مروان حامد؟ قصته “19-19” هي القصة الثانية في الفيلم. لأتركها لختام هذا المقال، لأنها تستحق شرف الختام. كذلك لن أشتبك مع كل مقاطع الفيلم العشرة، فقط أطرح بعض الملاحظات، منها ما كنت أتساءل حوله، خلال الساعتين، تحت وطأة الخجل، والعرق الذي اجتاحني... ما الذي يدفع مبدعا، أيا كان مجال إبداعه، في التورط في منتج “تيك أواي”، حول حدث من أهم أحداث تاريخنا كله، بهذه السرعة ودون أدني حد من التأمل والتفكير؟ وهو التساؤل الذي يطال كل المشاركين في الفيلم، مع احترامي للكثيرين منهم، وتأكيدي علي ضرورة ألا توضع أفلامهم في خانة شريف عرفة ومروان حامد. أفهم تورط هذين المخرجين سريعا في هذا المشروع، بل وتصدرهما له، كنوع من أنواع الانتهازية البسيطة، غسل اليد من نظام سقط رأسه، وكانا قد تورطا في خدمته، تقديم بادرة حسن نية ومحاولة ركوب موجة “مصر الجديدة”، وحجز مقاعد الصفوف الأولي بها. لكن، لماذا يقبل الآخرون أن تلتصق أسماؤهم بهذين الاسمين سيئي السمعة؟ وأن يتورطوا في فعل “التيك أواى”؟ هل هي شهوة المسير فوق السجادة الحمراء في مهرجان “كان” الأخير، شهورا قليلة بعد ثورة يناير، ليشير إليك الجمهور قائلا: هؤلاء هم السينمائيون المصريون الثوريون الذين أبهروا العالم؟ الفيلم بشكله العام ومستواه، فضيحة مكتملة المعالم، لا يشرف هذه الثورة، ولا يشرف السينمائيين الشرفاء الذين شاركوا بها، ولا يشرف بالطبع من شاركوا في صنع هذا الفيلم. ماذا عن الرؤية التي تجدها طاغية علي أغلب قصصه؟ الثورة غالبا هي ثورة شباب وفقط. أو أنها ثورة الطبقة الوسطي، والفئات “المستريحة” ماديا!!! هل هذا هو ما يراه القارئ الذي شارك في ثورة يناير؟ الأخطر من هذا أن مفهوم بعضهم عن الثورة، هي إنها مرادف للفوضي الكاملة، ويجعلونك تستشعر همجية أو بلاهة أو سذاجة شعب كامل!!! اللجان الشعبية في السويس مشكلة من العيال الصيع المبرشمين... جنود الجيش مصابون بالبله ولا يفهمون شيئا... الجد المثقف من الطبقة الوسطي غير قادر علي قول جملة مفيدة... الهمج الثوريون في وسط البلد يقتلون مواطنا لأنه يرتدي بلوفر مهلهلا عليه شارة أمين شرطة، أواخر أيام الثورة... من يبيعون الأعلام المصرية في ميدان التحرير ومن يحيطون بهم هم مجرد نصابين متلوني الوجوه... بائعة شاي تشارك في الثورة بسبب تعليق سخيف من شرطي حول لون شعرها الذي غيرته... “يسرا الممثلة” تذهب للاعتصام في التحرير، حتي لا تجلس بمفردها في منزلها الفاخر، ويغتصبها المجرمون الذين تم إطلاقهم، “الشرقانين للستات”، مثلما تقول هي!!!... والكثير من هذا النوع من التفاصيل. بالطبع، مع بعض الاستثناءات القليلة الإنسانية المتسمة بالرقة، التي تفاجئك في بعض اللحظات، في بعض القصص، فتجدها نشازا في هذا الفيلم. وتظل تتساءل: هل هذه هي الثورة التي شاركت بها؟ أما الآن، ماذا عن مروان حامد؟ تدور قصته حول التحقيق والتعذيب والقتل، الذي يتعرض له أحد النشطاء، وقام بالدور عمرو واكد، الممثل الذي شارك فعليا ويوميا في الثورة، ولم يعرفها عبر شاشات التلفزيون، مثلما هو حال مخرج قصته. حكاية مملة و”ملطوطة”، مع بعض السرقات الصغيرة لمشاهد تعذيب من أفلام أمريكية. هي قصة تعبر عن رؤية المخرج في موضوع التعذيب وأسبابه، وهي أن الضباط يمارسون التعذيب والقتل لأنهم عاجزون جنسيا!!! هل توصل مروان حامد لهذه النتيجة عبر صداقاته مع ضباط أمن دولة من النظام السابق؟ أم مع أعضاء جهاز الأمن الوطني الجديد؟ عموما هم نفس الضباط. يقتل عمرو واكد تحت التعذيب، فقط لأنه واجه الضابط بحقيقة عجزه الجنسي، بمجرد أن رأي هذا العجز في عينيه للحظة واحدة. ويتركنا مروان حامد دون أن يمنحنا تصوره لحل مشكلة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان. هذا الحل لن يكون بالطبع الثورة علي النظام وتأسيس مجتمع جديد يحترم ويقدس مواطنيه، ومحاكمة من ينتهكون كرامتهم. بل إن الحل الأسهل سيكون بناءا علي مروان حامد، هو أن نمنح الضباط فياجرا، فيتركونا في سلام!!! معذرة لشهيدنا خالد سعيد، ومعذرة للآلاف الذين عانوا من التعذيب لأعوام طويلة، سواء ماتوا تحت وطأته أم لا، فقط لحظهم العثر: وقوعهم تحت رحمة أحد العاجزين جنسيا!!! امتلأت صالة العرض قبل بداية الفيلم بنصف ساعة، وظل هناك الكثيرون بالخارج، لم يتمكنوا من الدخول. لم أحصل علي مقعد بالقاعة. إلا أنه وبسبب معرفتي الشخصية بالقائمين عليها، أدخلوني غرفة التحكم الصغيرة، لأشاهده من هناك. تمكنت أن أري الفيلم، وأري خيالات المشاهدين. ولأول مرة أشعر ببعض الراحة حين يفتح باب القاعة، خلال فيلم، مرات عديدة، ليغادرها بعض المشاهدين. شعرت بالراحة أكثر حين خرجنا منها، دون أن يصفق أحد، دون أن يتحدثوا حول ما شاهدوه للتو، بل ليتحدثوا عن أشياء أخري، وكأنهم لم يشاهدوا شيئا. هل يعلم هذا المشاهد الإسباني، بأن ما شاهده للتو هو تشويه لحدث تابعه بشغف طيلة 18 يوما، وعلق عليه الأمال؟ أم أن بعض مثقفينا ونخبتنا هم من لم يشاهدوا شيئا طيلة أيام الثورة، ولم يتعلموا منها؟ البعض الآخر تعلم سريعا كيفية توظيفها، في صنع فضيحته الشخصية!!! مرة أخري، وليست أخيرة، تثبت بعض قطاعات نخبتنا، أنها أقل كثيرا من مستوي الشعب الذي تدعي الانتساب إليه. جريدة البديل