«في الحلم» يتعرف الولد الحزين علي أم البنت التي تحب الورد في ذات الحلم يسافر فتي الحزن وتطلب منه البنت أن يشتري لها «جعرانا فرعونيا أبيض». الولد الحزين ينادي البنت لأول مرة في نفس الحلم ب «حبيبته». عندما تستيقظ فتاة الورد تجلس علي طرف فراشها وتعيد بصوت خافت الكلمة «حبيبتي» وتبكي من هذه الجمل المتلاحقة والتي اقتطعتها «نهي محمود» من داخل الرواية لتضعها علي غلافها، سيظهر لك وبكل وضوح هذا العالم المبهم والواضح في نفس الوقت والذي نسجت منه «نهي محمود» روايتها الجديدة «راكوشا» الصادرة حديثا عن دار ميريت. صدر لنهي رواية أخري سابقة «الحكي فوق مكعبات الرخام».. وإن كان ثمّة تشابه بين الروايتين فسيتلخص في تلك اللغة الشعرية المتدفقة والتي تمتاز بها «نهي محمود» في كتاباتها سواء كانت رواية أو سيرة ذاتية أو ما سواهما.. هذه اللغة التي تُكتَب من القلب فتصل إلي القلب مباشرة من خلال أقصر الطرق وهو توحد القارئ مع الراوي أو البطل وملاحظة نقاط التشابه بينه شخصيا وما يعادله في شخوص الرواية.. هذه اللغة التي تجعل «نهي» مختلفة بعض الشيء عن معظم أبناء جيلها الروائيين ممن يهتمون باللغة الروائية الغارقة في التفاصيل والأحداث والمبتعدة عادة عن جمال الصورة وصدق الإحساس. تستخدم «نهي محمود» في هذه الرواية تكنيكا متميزا.. فمن أولي صفحات الرواية إلي آخرها لن تجد اسما واحدا لأي بطل من أبطال الرواية.. وهذا ما قصدته بعبارة «العالم المبهم الواضح» في بداية المقال.. ستقابل «البنت التي تحب الورد»، «الولد الحزين»، «فتاة الشيشة»، «فتاة الجريدة»..وغيرهم.. ولكنك لن تجد اسما واحدا.. وبرغم ذلك ستكتشف أنك تسير في الرواية بلا طلاسم.. فهذه الأبطال شخصيات حية زاخرة بالتفاصيل لن تهتم باسمها بقدر اهتمامك بما تمثله كل شخصية في الرواية من لحظات انكسار وانتصار وحب وحقد وبهجة وتعاسة.. ستكتشف أنك تحتفظ في مخيلتك بصورة كاملة لكل شخصية وعلاقتها بباقي الأشخاص.. وربما ستجد نفسك متلبسا في رسم صورة للشخصيات من خلال صفاتها وسلوكها.. فتتعاطف مع البنت التي تحب الورد وهي تبحث في «الزار» عمن يخلصها من حيرتها، وتصطدم مع فتاة الجريدة، وتتحسر علي مصير الولد الذي يأكل العدس، وتبتسم مع البنت الصغيرة التي تنتمي لفتاة الشيشة، وتمسح دمعتك حين تتأثر بالعلاقة بين البنت التي تحب الورد وأمها الراحلة.. وعالم «راكوشا» عالم واقعي تماما.. ستمشي مع البطلة صباحا فتتنسم من أوراق الرواية نسمات صباح الكورنيش وزحمة وسط البلد، وتستمتع برائحة «ابن عبدالمعبود» وتقرأ «الدستور» التي توزع صورة لحسن نصر الله التي كانت تظنه الممرضة قسّا.. لن تجد في الرواية عالما تخيليا ولا أبطالا خارقين أو فاقدي الذاكرة أو مصابين بالفصام.. ستجد شخوصا عادية تحركهم المشاعر البشرية الطبيعية.. فالرواية يمتد خطها الرئيسي ناسجا قصة الفتاة التي تحب الورد التي يحوطها عالم وسط البلد والمقاهي والكتابة الإبداعية مع الفتي الحزين.. والذي تتبدل علاقته معها بين القرب والبعد.. بين الحب الفعلي والحب الهلامي.. وخلال هذا الخط الرئيسي تتفرع عوالم أخري تحوي العلاقات بين شخوص الرواية.. والقارئ المتابع لكتابات نهي محمود سيكتشف أن «راكوشا» تقترب إلي حد بعيد من «نهي محمود» نفسها من خلال علاقتها بالكتابة وعلاقتها بأمها الراحلة وأبيها الحنون وأصدقائها المقربين.. بل إننا لن نبالغ إن قلنا إن العلاقة تصل إلي حد التطابق تماما.. في ظروف الحياة علي الأقل! لن تجد في الرواية صدمات ولا مفاجآت مدوية.. فحتي في أحلك المواقف ستمر عليها الرواية ببساطة وكأن «نهي» أرادت أن تعلن أن كل ما يمر علي الإنسان عبارة عن أحداث عادية.. أن يموت فلان أو أن تصارحها فلانة بحقدها وكرهها الشديد لها، رغم كون معظم هذه الأحداث تستحق أن تكون أحداثا محورية في الرواية، ولكن نهي لا تتوقف عن استخدام الجمل القصيرة والأفعال المضارعة في السرد من نوعية «تتشاجر معه- يهمس لها- تحكي فتاة الشيشة» وكأنها آلة تصوير صامتة تصف الأحداث كأنها لقطة فلاش سريعة لاتستحق الوقوف عندها كثيرا.