عندما أعلن د. محمد البرادعي استعداده لخوض انتخابات الرئاسة القادمة إذا ما توافرت الشروط البدهية لاتساقها مع الأسس الديمقراطية، أي وضع شروط معقولة لضمان جدية الترشح واتخاذ إجراءات لضمان نزاهة الانتخابات، اعتبر البعض هذا التصريح بمثابة اعتذار عن الترشح لمن طالبوه بذلك. ولكن سرعان ما اتضحت جدية الرجل في خوض غمار معركة الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي في مصر، فطالبه البعض بالانضمام لأحد الأحزاب حتي يتمكن من الترشح للرئاسة، ولما جاء رده واضحا بأنه لن يترشح إلا مستقلا وبعد تعديل الدستور، عاد الحديث عن استحالة تحقيق شروطه لخوض الانتخابات. وما أن بدأ النضال الفعلي من أجل التعديلات الدستورية عبر تنظيم حملة شعبية لجمع التوقيعات والتوكيلات، حتي وصف البعض جمع التوقيعات بالنضال المجاني!! وأخيرا ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية ارتفعت الأصوات بضرورة خوض الانتخابات البرلمانية ولو دون أي ضمانات لنزاهتها، وتراوحت الاقتراحات من ترشح البرادعي نفسه للانتخابات البرلمانية إلي ترشيح أنصاره تحت شعار «علي طريق البرادعي». واللافت للانتباه أن هذه الاقتراحات تأتي في الوقت الذي يخوض فيه مناضلون شرفاء في أحزاب المعارضة الرسمية معركة ضارية لقطع الطريق علي الصفقات، التي انتشرت أخبارها، بين الحزب الحاكم وقيادات هذه الأحزاب، رافعين شعار «لا انتخابات بدون ضمانات». ليس من الصعب للمتابع لكل هذه الصراعات والحوارات إدراك أن وراءها منطقين متعارضين تماما. المنطق الأول هو منطق الاستسلام للأمر الواقع والقبول بالمساومات الجزئية للحصول علي نصيب تافه من الكعكة، أو بتعبير آخر، هو منطق الأسقف المنخفضة الذي ابتدعه رفعت السعيد - رئيس حزب التجمع - والعضو المعين في مجلس الشوري -، والذي تسير علي دربه باقي الأحزاب الرسمية، هو منطق الخضوع لقواعد اللعبة التي أرساها هذا النظام الفاسد. هذا المنطق لم يقد هذه الأحزاب إلا لمزيد من العزلة والتحلل الداخلي والذي أدي بدوره إلي المزيد من الارتماء في أحضان النظام، وهكذا حتي لامست أسقف السعيد المنخفضة الأرض!! المنطق الآخر، علي العكس تماما، يرفض الخضوع لقواعد اللعبة والاستسلام للأمر الواقع، ويلجأ للجماهير، التي جري عزلها بإصرار ودأب عن المجال السياسي بكل صور الإفساد والقمع الممكنة، ويراهن علي مشاركتها في معركة التغيير الديمقراطي من أجل تعديل قواعد اللعبة نفسها، لا الخضوع لها. وليس غريبا والحال كذلك أن يسعي لكسب الأنصار من خارج المجال السياسي الضيق والحاكم لحركة الحكام والمعارضين علي حد سواء، ولا أن يكون الشباب هو عماد هذه الحركة الأساسي. رفض الخضوع لقواعد اللعبة يعني حتما الامتناع عن خوض انتخابات يعلم القاصي والداني أنها ستتعرض لتزوير فج وتدخلات أمنية غير مسبوقة، بانت بوادرها في انتخابات مجلس الشعب التكميلية في بعض الدوائر ناهيك عن فضائح انتخابات المجالس المحلية. حجج الداعين للمشاركة في الانتخابات البرلمانية معروفة ومكررة، مثل القول بأن الانتخابات فرصة للدعاية السياسية وللعمل وسط الجماهير، ولا يسعني إلا الدهشة من قوي سياسية تنتظر موسم الانتخابات مرة كل أربع سنوات للعمل وسط الجماهير أسبوعين أو ثلاثة! أما القول بضرورة العمل علي إنجاح بعض المرشحين ليكونوا صوتا للمعارضة تحت قبة البرلمان فهو ليس أقل زيفا، لأننا خبرنا ولسنوات طويلة نوع المعارضة تحت قبة البرلمان لمرشحين يأتون عبر الصفقات مع النظام الحاكم والتربيط مع الأجهزة الأمنية والمسئولين الفاسدين في المحافظات والأجهزة المحلية. هذه الحجج وغيرها تساق من الأحزاب الرسمية للتغطية علي الحقيقة المرة، وهي أن مشاركتها في الانتخابات هي أحد شروط اللعبة بينها وبين النظام، وأنها لا تملك في الحقيقة أن تمتنع عن الخضوع لهذه الشروط، خصوصا بعد أن تفاقمت عزلتها عن جماهيرها. هذه الأحزاب ومعها الإخوان المسلمون، وأن لأسباب مختلفة ليس هذا مجال الخوض فيها، ستخوض الانتخابات حتما وتحت أي شروط. وليست محاولات جر حركة التغيير الديمقراطي البازغة للمشاركة في هذه الانتخابات إلا محاولات لإدخالها حظيرة النظام، مما كانت النوايا، وذلك عبر تقزيم النضال الجاري لتغيير قواعد الممارسة السياسية وإجبارها علي الخضوع للشروط التعسفية التي يضعها النظام المستبد القائم أمام كل من يسعي للمشاركة في العمل العام. لا انتخابات بدون ضمانات. هذا هو الموقف الوحيد الصحيح من الانتخابات البرلمانية القادمة، فضلا عن أنه يربط هذه الانتخابات بالانتخابات الرئاسية التي ستتلوها، وينسجم مع مجمل النضال الجاري من أجل تعديل جذري لقواعد الممارسة السياسية، يسمح للشعب باختيار ممثليه بحرية. لقد بدأت بالفعل معركة التغيير الديمقراطي ولا يجب أن نسمح بأي حال من الأحوال لأي مكاسب جزئية تافهة أن تجرنا بعيدا عما نصبو إليه من تغيير ديمقراطي شامل.