لقد أحدثت تلك الظاهرة التى طفت على السطح داخل المجتمع المصرى بعد الثورة والتى يمكن أن نطلق عليها "التدين السياسى" الذى أدى إلى إنجراف أعداد كبيرة من أتباع شيوخ السلفية ومن المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين وراء تركيز الإهتمام فقط حول القضايا السياسية المتتابعة وإضفاء الصبغة الدينية عليها، حتى انتهى الأمر إلى عزوف كثير من شيوخ الفضائيات عن الحديث عن الأمور الحياتية والطقوس والعبادات التى إقتصرت عليها أنشطتهم الدعوية فى مرحلة ما قبل الثورة، إلى حصر أتباعهم من الطبقة المحافظة ومن البسطاء اللذين لم يحظوا بالقدر الكافى من التعليم والتوعية فى حلقة مفرغة من النقاشات السياسية بمفهوم دينى بحت، ومن منظور فكرى وعقائدى محدد .
والحقيقة أن معدل إنتشار تلك الظاهرة (على عكس ما يدعيه البعض من إنحصارها) اخذ فى الإرتفاع بشكل مطرد بين الطبقات الإجتماعية التى تتسم بالمحافظة والتدين، وبين هؤلاء الباحثين عن الإستقرار (واللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش)، بشكل متوازى مع إرتفاع معدلات فقدان الثقة (على الجانب الأخر) فى أداء الإخوان المسلمين بإعتبارهم الفصيل الحاكم،
وفى التيارات الإسلامية بشكل عام بين صفوف القوى المدنية التى لا ترى أى بوادر لدى تلك التيارات للتوافق السياسى أوالتغيير فيما يتعلق بالأداء الحكومى وطرح رؤية جادة للتطويرمنه، وهو ما سيؤدى، بطبيعة الحال، إلى سعى كل طرف إلى التمترس داخل معسكره للدفاع عنه ضد المعسكر الأخر، وما قد ينتج عن ذلك من تصاعد حدة الإستقطاب فى المجتمع ككل .
لقد أدى إنتشار تلك الأفكار التى تميل إلى المغالة والتطرف فى كثير من الأحيان إلى إكتشاف حقيقة أن النظام السابق قد فشل فشلاً ذريعاً فى القضاء على تلك التنظيمات والجماعات وتجفيف منابع تمويلها من الناحية التنظيمية،
وفشل كذلك فى طرح أى مشروع فكرى بديل يتسم بالحداثة والإعتدال على الرغم من إمتلاكه للأدوات والإمكانات الهائلة التى كانت من الممكن أن تؤهله لأخذ زمام المبادرة عن طريق الأزهر الشريف بمؤسساته العريقة وعمق تأثيره فى الشخصية المصرية، وإستغلال كل ذلك فى الإرتقاء بالوعى الجمعى المصرى فيما يتعلق بثقافة المجتمع الدينية، وفهمه وإدراكه لطبيعة الإسلام السمحة التى تبتعد كلياً عن كل هذا العبث الذى نشهده على الساحة الأن .
ورغم كل الكوارث التى حدثت منذ صعود الجماعة إلى سدة الحكم، والتى تتصل إتصالاً مباشراً بالفقراء والمعدومين، ورغم الإرتباك والتخبط المسيطران على مراكز صنع القرار فى هذا البلد، فإن ذلك (فى تقديرى) لأن يؤثر بأى شكل من الأشكال على القرار المسبق لكثير من هؤلاء الفقراء بالتصويت فى الإنتخابات البرلمانية المقبلة لصالح تيارات الإسلام السياسى لعدة أسباب أهمها :
1-أن النسبة الكبيرة من الفقراء فى مصر مازالوا ينظرون للإنتخابات على أنها الموسم الذى ينتظرونه من وقت لأخر، بإعتبارها المناسبة التى تغدق عليهم فيها جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها من قوى الإسلام السياسى الأخرى بالأموال والسلع التموينية والإحتياجات اليومية التى يحتاج إليها هؤلاء بشدة، دون النظر إلى حقيقة أن ذلك يعد شراءً لأصواتهم بثمن بخس، أو أن ذلك يندرج تحت تزوير الإرادة أوغيره .
2-أن من يعيشون فى الضواحى والأرياف والمناطق البعيدة عن العاصمة و فى صعيد مصر (وخصوصا المتعلم منهم) لا يحتاج إلى أن يتعرض لكثير من المحاولات للتأثير على إرادته أو رغبته فى التصويت لتيار بعينه، لأن قضيته تتمحور فى الأساس حول كونه يتسم بطابع المحافظة الدينية نتيجة للتربية الريفية التى نشأ عليها، والطبيعة القبلية للبيئة التى قضى معظم حياته فيها، وبالتالى يكون خياره فى أغلب الأحيان محسوماً منذ البداية لصالح مرشحى الإخوان المسلمين أو أى من التيارات الإسلامية التى يعتقد أنها الأقرب إلى توجهاته وأراءه التى غالباً لا تميل إلى قبول التعددية والإنفتاح على الأخر .
3-أما السبب الثالث والذى أرى من وجهة نظرى أنه الأكثر تأثيراً، فهو الإستمرار فى إنحسار إهتمام القوى المدنية على العاصمة فقط فى تنظيم فعالياتها الإحتجاجية والتعبوية، أو تلك المتعلقة بأنشطتها التثقيفية وبرامج التوعية، وإبتعادها الجوغرافى والأيدولوجى عن باقى المحافظات والأقاليم نتيجة للقصور التنظيمى والعجز التمويلى الذى يسيطر عليها والذى لم تنجح (تلك القوى) بعد فى إيجاد حل جذرى له حتى الأن .
لقد أدى تردى مستوى التعليم خصوصاً فى القرى والأقاليم، وكذلك غياب الدولة عن رعاية مصالح الفقراء هناك إلى إحداث حالة من الفراغ المجتمعى والمعرفى، وهو ما هيأ الفرصة أمام تيارات الإسلام السياسى إلى تعويض هذا الغياب وإلى ملىء الفراغ بطريقة سمحت بخلق حالة عامة من الولاء بين قطاعات واسعة من أبناء الطبقات التى يغلب عليها الجهل والحاجة،
وهو ما سوف يحتاج إلى وقت ليس بالقليل من إعادة بناء الوعى السياسى هناك بالطريقة التى تسمح للفرد بالتعبير عن أراءه ورغباته بإستقلالية تامة، دون التأثر بأى عوامل خارجية، وهو ما يعد من أسس الديمقراطية التى تسعى بقدر الإمكان إلى وصول من يعبر بحق عن إرادة الشعوب وتوجهاتها إلى مراكز صنع القرار .