ليلة أمس وبينما قربت والدتي على الانتهاء من صلاة العشاء، وبمجرد أن شرعت في بسط كفيها للسماء سؤالاً لله الصحة والستر وأشياء أخرى تخصني وإخوتي ووالدي، فانقضضت عليها وأمسكت بكفيها طالبا منها الانتظار حتى تضيف إلى "المنيو" بتاعي هذا الدعاء: اللهم اكفني شر المرور ولتجعل مدخلي إليه مدخل سرور، ومخرجي منه وأنا مجبور، اللهم قني غتاتة موظفي الخزنة، وكل من يتعمد أن يدوخنا. هذه العريضة الدينية التي أمليتها على أمي حاولت بها أن أتفادى كوابيس المرور التي أقصّها علي كثير من أصدقائي ممن ساقهم حظهم "العفش" كي ينهوا إجراءات أوراق سياراتهم الخاصة، وقد بات عليَّ أن أتعرض أنا أيضا لأحد تلك الكوابيس عندما أتوجه لإدارة مرور (....) ولا بلاش، كي أنهي الأوراق الخاصة بسيارتي –ما تبصليش أوي كده دي 128 يعني بينها وبين الميكانيكي حالة غرام وانتقام- وإليكم تفاصيل هذا الكابوس.. بمجرد أن اقتربت من بوابة المرور استوقفني أحد عساكر الأمن بإشارة بطرف أصبعه كي أتوقف -وكأنني شحاذ أشعث الشعر نتن الرائحة مطلق اللحية أقبّل رأسه طالبا "حاجة لله" المهم توقفت على الفور، وبعدما علم سبب دخولي بالسيارة قال: صباح الفل، فكان ردي بديهيا غير متعمد الاستهبال: صباح الجمال، فأجاب بتكشيرة صارمة: طيب عموما اللي على القزاز ده ملصقات وهتشتري لك طفاية، ومثلث عاكس، وشنطة إسعافات بييجي 200 جنيه، وبعدين الرخصة مش باسمك. فهمت الإشارة، وحاولت الهروب من الموقف بأقل خسائر، فقلت له: هافحص وآجي لك، فقال مبتسماً: ماشي مستنيك، المهم أول خطوة كان عليَّ سلوكها هي شراء شيء ما يسمى نموذج فحص، ولمن لا يعرف نموذج الفحص هو عبارة عن نموذج يملؤه المهندس المختص بعد فحص سيارتك، والتأكد من استيفائها لشروط السلامة والمتانة، حسناً ومن أين أبتغي مسلكك أيها النموذج؟ الإجابة في الخزنة، فيها يُباع النموذج، وفيها أيضاً قطار بشري لا تحصره العين به كم كبير من البشر المصطفين، بعضهم من السابعة صباحاً كي يحجز مكاناً متقدماً في هذا القطار، لم يكن أمامي خيار آخر سوى الوقوف في سبنسة ذاك القطار البشري؛ ليس فقط لأني أحترم النظام حتى لو كان بهذا الطوووووول، لكن أيضا لأسباب تتعلق بعنق ربما يُدق وعمود فقري ربما يتحول لأباجورة وذراع حتماً سيلتفّ حول الوسط وعينين ستقطران دما فقط لو حاولت لا بل لو فكرت في أن أقف في مكان ليس مكاني، وبعد فترة من العِشرة مع آل الطابور والتي تكوَّنت بفعل طول وقوفي به اكتشفت أن أغلب الواقفين بهذا الطابور واقفون لأسباب تافهة مثل شراء دمغة ونماذج فحص مثلي، وأن الأقلية القليلة هي تلك التي تسعى إلى دفع مصاريف أو تجديد أو... أو... أنجزت المهمة وحصلت على النموذج، وتوجهت بالسيارة كي يتم فحصها، وبمجرد أن اقترب مني عامل الفحص حتى ألقى عليّ السلام، وتوقف متوسطا كلتا يديه فوق فم معدته، ونظر إلى الأرض، وكأنه يشرع في الصلاة، فهمت إشارته وناولته ما طلته في جيبي "مرغماً"، وبمجرد أن انتهى من الفحص حتى أقبل المهندس، وطلب مني أن أذهب لأشتري مطفأة حريق، حاولت إخباره بأني لديَّ واحدة فأجاب قائلا: خلي بتاع الطفايات يقول لي الكلام ده، اللطيف أن بتاع الطفايات بمجرد أن رأى المطفأة نظر لي بكل ما أوتي من اشمئزاز طبيعي ومصطنع، وقال من تنتوف تناتيف مناخيره: لا لا لا لا.. دي إنتاج قديم، اشتري لك واحدة ب120ج، وهات شنطة إسعافات ومثلث ب74ج، وبعدين خلي المهندس يمضي لك وبعدين روح للشباك اللي هناك ده عشان تعمل نقل ملكية، وبعدين فكّ النمر، وركّب نمر جديدة، وبعدين اعمل طلب عشان تغيَّر الرخصة، وهتاخد رخصة مؤقتة، وبعدين كمان تلات شهور تجدد الرخصة، وغالبا هتعمل كل الكلام ده تاني. تجاهلت محاولاته المتكررة لإحباطي، وتوجهت إلى شباك استخراج الرخص الخاصة -عن طريق الخطأ- فكان أغرب ما سمعته في حياتي.. وجدت الموظف يسأل أحد مستخرجي الرخص عن اسم الواسطة التي أتى بموجبها إلى هنا، فأجابه "فلان الفلاني"، الأغرب أني وجدت الموظف يكتب اسم الواسطة ويمضي عليها، بل وناوله الملف كي يؤشر عليها أحد الموظفين، خرجت من المرور في حالة ذهول دون أن أكمل ورقي، أو أفعل أي شيء، وأمامي كفان يضرب أحدهما الآخر، أحدهما مستنكر والآخر مستعجب. شردت في طريقي متسائلا ومستغربا لماذا؟ لماذا نخصص موظفا واحدا على شباك خزنة يخدم يوميا ما يزيد على ألفي مواطن.. لماذا؟، لماذا نجعل الرشوة والواسطة بوصلتي اتجاه أي مصلحة حكومية في مصر؟ وإذا لم يتكيف المواطن مع أي منهما فعليه حينها أن يتعامل مع البوصلة الثالثة وهي بوصلة الروتين، بوصلة الروتين التي تجعلك مجبرا على قضاء ما يزيد عن نصف كيلو مشي ذهابا وإيابا بين مكاتب الموظفين؛ لمجرد أنهم غير متواجدين في مكتب واحد، الروتين الذي يجبرك على دفع ما لا تطيق من أموالك لمجرد أن الموظف لا يريد أن يجهد نفسه ويتحقق مما يفعل، فيشتري مثلث "فااااكس" وشنطة "إسهامات" لجيوب أصحاب النصيب، الروتين الذي يجعل أي مشوار في أي وزارة كابوساً يتمنى أن يصحو منه سريعاً أو يهرب منه دون انقضاء حاجته؟؟ لماذا نكره لجوء غيرنا للواسطة بينما نلهث وراءها بمجرد أن تتاح لنا؟ كيف تذبل أناملنا من مداعبة السبحة بينما رائحتها ما تزال قذرة من حفيف الجنيهات التي انتزعناها زورا وبهتانا من جيوب الفقراء؟ لماذا نلعن الروتين والنظام بينما نتفنن في إذلال المواطنين عندما تتبدل المواقف وتتغير؟ لن ألعن الظلام، ولن ألعن النظام -فكلاهما مرادف لشيء واحد- سألعن كل من يفعل ما يكره أن يفعله معه الآخرين، فأنتم نواة ذاك النظام الذي تلعنونه، هذا النظام الذي خرج من ذات التربة الفاسدة؛ لأن الموظفين في المرور هم نفسهم من يلعنون موظفي الشهر العقاري عند أي مطلب روتيني، وموظفو الشهر العقاري هم نفس المواطنين المذلولين بين مثلث الرشوة والواسطة والروتين بالمرور، وبين هذا وذاك سيستمر الله في تسليط بعضنا على بعض؛ لأننا لا نرحم أنفسنا، فكيف يرحمنا الله؟ لأننا ندعوه باليمين ونتناول الرشوة باليسار، فكيف يفكُّ أسر ذلنا. إذا سئمت لعْن ظلام -أنت من صنعه- فلتوقد شمعة -أنت من أطفأها (ابدأ بنفسك)