انتهينا في المقال السابق أن الجهاد ليس هو القتال وبس؛ بل الجهاد أوسع من القتال لأنه يشمل جهاد النفس والشيطان والظلمة والكفار بأساليب كتيرة منها القتال.. لكن بعض الشباب المسلم المتحمس الغيور على دينه متعجل في إقامة شرع الله والسعي لهزيمة الكفار المعادين للمسلمين من ناحية، وتطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد الإسلام من ناحية ثانية، ومن وجهة نظر هؤلاء الشباب أن هذا الأمر لن يتم إلا من خلال السلاح لمواجهة الكفار "الغرب ومن على نهجه" أو مواجهة الحكومات والأنظمة في الدول الإسلامية التي لا تطبق شرع الله.. هذا الشباب نحن لا نشكك في نيته؛ فالنية أمر بين العبد وربه..
ولكن المشكلة إن فهمهم خاطىء .. لذلك عندما يصل هؤلاء للحكم بسرعة في بعض الحالات بتظهر مشاكل كتيرة، وللأسف هذه المشكلات تُنسب زوراً وبهتاناً للإسلام وليس لهؤلاء. ويمكن تجربة المجاهدين الأفغان بعد رحيل السوفييت خير دليل على ذلك، وتجربة حركة شباب المجاهدين في الصومال التي تحارب حكومة إسلامية زيها هي حكومة الشيخ شريف مثالاً آخر على ذلك. التربية أولاً: إن التربية -والتربية الإيمانية تحديداً- هي الأساس الذي لا بد منه لمن أراد أن يقاتل الكفار والمشركين، والتمكين لشرع الله.. ولذلك يقول العلامة القرضاوي في كتابه فقه الأولويات لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمواجهة الكفار في مكة طيلة 13 سنة؛ برغم أنهم عانوا الأمرّين من هؤلاء؛ فقد طالبوا النبي بحمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم وحرباً لعدوهم وعدو دينهم.. لكن النبي كان يقول لهم ما حكاه القرآن {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}.
وكانت مهمة القرآن المكي طيلة الفترة المكية العمل على بناء الإسلام وتربية جيل الطلائع تربية إيمانية أخلاقية عقلية متكاملة.. وعندما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً (أي مبنيّ على جهاد العبد لنفسه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"؛ فإنه من لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمرت به وتترك ما نهيت عنه لم يمكنه من جهاد عدوه في الخارج. ليه التربية قبل الجهاد؟ عارف، هتقول مش مقتنع لسه. هاحاول أوضح أكتر.. يقول القرضاوي: إن تقديم التربية على الجهاد المسلح يرجع لعدة أسباب.. 1- أن الجهاد في الإسلام ليس أي جهاد؛ ولكنه جهاد بنيّة خاصة فهو جهاد في سبيل الله؛ وقد سئل النبي عن "الرجل يقاتل حمية (عصبية لقومه)، والرجل يقاتل ليُرى مكانه (أي ليُذكر بالشجاعة) والرجل يقاتل للمغنم: أيهم في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله".. هذا النوع من التجرد من كل دافع دنيوي لا بد من تربية طويلة المدى حتى يخلص دينه لله.. ملاحظة: الموضوع ده مهم جداً؛ لأن احتقار الدنيا بين المجاهدين في أي مكان مش هيخليهم يتخانقوا على المناصب ولا السلطة.. بل على العكس الكل هيتنازل الواحد للتاني ما دام الهدف هو في سبيل الله. 2- أن ثمرة الجهاد التي يتطلع إليها المجاهد المسلم في الدنيا هي التمكين والنصر.. وهذا التمكين والنصر لا يؤتي أُكُله إلا على أيدي مؤمنين صادقين يستحقون التمكين، ويقومون بواجباته {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ}.. إن الذين يُمكنّون وينتصرون قبل اكتمال التربية قد يفسدون أكثر مما يصلحون (سؤال.. أليس هذا حاصلاً الآن للأسف؟).. 3- إن التمكين والانتصار لن يتحقق إلا بعد الابتلاء.. ليبتلي الله ما في صدور هؤلاء ويميز الخبيث من الطيب، وهذا لون من التربية العملية.. وقد سئل الإمام الشافعي: أيهما أولى للمؤمن.. أن يبتلي "يعني يختبر" أو يُمكّن؟ فقال: وهل يكون تمكين إلا بعد ابتلاء؟ إن الله ابتلى يوسف عليه السلام، ثم مكّن له، كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}.. إن التمكين الذي يجيء سهل المأخذ يُخشى أن يضيعه أهله أو يفرطوا في ثمراته على عكس لو بذلوا فيه من أنفسهم وأموالهم وراحتهم، ومستهم البأساء والضراء والزلزلة حتى أتى نصر الله.. عرفت بعد كل هذا لماذا التربية أولاً؟.. وليه هناك صعود بل وتمكين لقوى إسلامية بسرعة؟ لكن للأسف تنهار هذه القوى بسرعة. عارف إن فيه تآمر خارجي عليهم، وأيضاً تآمر داخلي في أوقات تانية.. لكن فيه جزء من المشكلة في عملية تربيتهم.. لأن لو كان هناك تربية صحيحة لن تصل الخلافات بينهم لأن يحاربوا بعضهم البعض بدلاً من محاربة الأعداء.. انتظرونا في الحلقة القادمة و.... التربية والثقافة قبل تطبيق الشريعة اقرأ أيضاً: في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك (1)