في طريقي للعودة راكبا الميكروباص، وهو يؤرجحني ذات اليمين وذات اليسار في شوارع أديس أبابا الصاعدة والهابطة، لمحت تلك الكنيسة الرائعة من النافذة، وقررت أنني يجب أن أنزل فورا لزيارتها! مبنى عجيب على شكل مُثمَّن يقبع وسط حديقة شاسعة، هذه هي كنيسة سان جورج، وهذه الكنيسة لها قصة. بعد أن استولت بريطانيا على قناة السويس باحتلالها لمصر، حاولت إيطاليا التحكم بمدخل البحر الأحمر، وهكذا حاولت غزو إثيوبيا عام 1896. في ذلك الوقت في نهايات القرن التاسع عشر، كانت كل بلاد إفريقيا تحت احتلال الدول الأوروبية، عدا ليبيريا وإثيوبيا. تقع جمهورية ليبيريا على الساحل الغربي للقارة السمراء، بينما تقع الإمبراطورية الإثيوبية في موقع استراتيجي عند القرن الإفريقي، كانت إيطاليا قد استولت قبلا على الأراضي الإيريترية والصومالية، وأرادت تحسين وضعها في القارة بالاستيلاء على إثيوبيا أيضا، وكانت الذريعة هنا هي إلغاء الإمبراطور منيليك الثاني لمعاهدة أوتشيالي التي كانت قد عقدت بين إيطاليا وإثيوبيا عام 1889، واستعملتها إيطاليا استعمالا سيئا وزعمت أنها تسمح لها بإدارة جميع شئون إثيوبيا الخارجية مع الدول الأخرى. استطاع الإمبراطور مينيليك توحيد الفصائل الإثيوبية للحرب ضد اعتداء العدو الإيطالي، وكانت المعركة الفاصلة هي معركة "عدوة" عام 1896، التي اكتسحت فيها القوات الإثيوبية الجيش الإيطالي وأنزلت به هزيمة ساحقة، حيث قتل 6000 جندي إيطالي وأسر 4000، كما استولى الإثيوبيون على المدافع والمسدسات والأسلحة التي أحضرها الإيطاليون. كان لمعركة "عدوة" أهمية كبرى، فهي أول هزيمة عسكرية مؤثرة لقوة استعمارية أوروبية على يد قوة غير أوروبية منذ بدأ عصر الاستعمار، مما ألهب الشعور الوطني لدى الشعوب المحتلة أراضيها، وقضت على أسطورة الأوروبي الذي لا يقهر. يعتقد الإثيوبيون أنهم انتصروا على الإيطاليين بمعونة القديس مار جرجس (سان جورج)، لذا فقد بنوا هذه الكنيسة عام 1896على اسمه اعترافا بفضله. بُنيت هذه الكنيسة الفريدة بشكل ثماني الأضلاع، وقد صُمّمت بواسطة سباستيانو كاستانيا، وتم استخدام السجناء الإيطاليين في عمليات الإنشاء. عام 1937 تم إضرام النار في الكنيسة بواسطة الحكومة الإيطالية الفاشية في أيام الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا، ثم تم إصلاحها عام 1941. هذه الكنيسة تتمتع بأهمية كبيرة في البلاد وقد توّج فيها بعض الأباطرة الإثيوبيين، ومنهم الإمبراطور هيلاسلاسي. كانت الكنيسة مغلقة الأبواب كمعظم الكنائس في إثيوبيا، لذا لم أتمكن من دخولها، فدخلت إلى الحديقة المحيطة بها وأخذت أصوّرها من عدة زوايا، إلى أن انتبه لي الحارس أخيرا فطالبني بدفع 50 برّا، ويتم هذا في كشك يقع في الطرف الآخر من الحديقة كعادة الإثيوبيين في وضع أكشاك التذاكر في أماكن بعيدة عن أماكن الدخول. للكنيسة برج ملحق بها يحمل جرسا هائل الحجم، هو إهداء من الإمبراطور الروسي قبل اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، ويوجد داخل مبنى البرج متحف صغير. كنت قد حضرت بعد مواعيد الإغلاق، لكن مسئول المتحف كان كريما عندما فتح لي المتحف خصيصا، بعد أن عرف أنني من مصر الشقيقة. مبدئيا ولكي يثير حماسي، قال لي المرشد: كما أن لديكم في مصر الهرم الأكبر، نحن لدينا كنيسة سان جورج! هل تقارن -أيها المرشد- كنيسة سان جورج بالهرم الأكبر؟! الكنيسة رائعة بالطبع لكن لا يمكن أن تقارنها بالهرم الأكبر مرة واحدة! هناك ملاحظة عامة وشائعة في البلد، هي أن الإثيوبيين يميلون كثيرا إلى المبالغة في تقدير حجم الأشياء لديهم. ربما نتيجة لشعور قومي متنامٍ واعتزاز شديد بالبلد وتاريخها. مثلا لديهم سوق شعبية مفتوحة تسمى ميركاتو Merkato، وهي كلمة إيطالية تعني السوق، يقولون إن هذا أكبر سوق مفتوحة في إفريقيا. لم يتسنّ لي زيارته لكن من ذهبوا إليه منا قالوا إنه ليس أكبر كثيرا من الأسواق الشعبية في مصر. يطلقون على كل شيء لديهم أنه الأكبر في العالم أو الأكبر في إفريقيا، لكن يجب أن نأخذ هذه التقديرات المبالغ فيها بشيء من الحذر أو كما يقول الغربيون: with a pinch of salt. يحتوي المتحف على بعض مقتنيات الأباطرة هيلاسلاسي وزاوديتو ومنيليك الثاني، ومجموعة من الصلبان الإثيوبية ذات الأشكال المميزة، ثم مخطوطات أثرية، ومجموعة صور، ومقتنيات مهداة إلى المتحف من مختلف الملوك والأباطرة. في مدخل المتحف بالخارج يوجد تمثال كبير لأبونا بطرس أسقف ويلو، الذي استشهد على يد الإيطاليين عام 1937، عندما رفض التخلي عن ولائه للإمبراطور هيلاسلاسي. بعد أن انتهت الجولة في المتحف، وجدت المرشد يتململ ويتلكأ، وشعرت أنه ربما كان ينتظر بقشيشا، لكني فكرت أنه قد يكون من غير المناسب أن أعطيه مالا، فالرجل مثقف ويبدو محترما فخفت أن تعتبر هذه إهانة، من ناحية أخرى فالمرشد السياحي لدينا لا يتقاضى بقشيشا من الزبائن. فيما بعد عندما قرأت في مواقع السفر على الإنترنت عن الكنيسة والمتحف، وجدت أن بعض الناس قد كتبوا يشتكون من أن مرشد هذا المتحف ينتظر أن يأخذ بقشيشا من الزوار، وعندها تأكدت من أن الدفء الذي شعرت به في ظهري وأنا أغادر كان بالفعل ناتجا عن نظراته النارية!
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (6) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (7) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (8) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (9) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (10) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (11) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (12) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (13) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (14) أديس أبابا 15 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: