بعد أن انتهينا من عملنا في أحد ملاجئ الأطفال على الجبل، كانت فرصة عظيمة لزيارة دير الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي. يقع الدير أعلى الجبل شمال أديس أبابا، على مسافة تقترب من نحو مائة كيلومتر، تقطعها السيارة في أكثر من ثلاث ساعات بسبب صعوبة صعود السيارة على الطريق الصاعد على الجبل، إضافة إلى وعورة الطريق. أثناء البحث عن طريق الوصول إلى الدير أعلى الجبل رآنا بعض السكان المحليين، فصاروا يشيرون لنا بأيديهم إلى اتجاه ما، وهم يصيحون: "بابون! بابون!". لم أفهم في البداية ما يعنون، ظننتهم يقولون شيئا ما بالأمهرية، لكن بعد قليل من السير رأينا على الطريق عائلات من قرود البابون تتحرك هنا وهناك على جانبي الطريق! بعد منطقة القرود بمسافة غير بعيدة وجدنا الدير الذي أسّسه القديس تكلا هيمانوت في القرن الثالث عشر، يعرف الدير أيضا ب "ديبرا ليبانوس"، ديبرا تعني دير باللغة الجعزية القديمة، أما ليبانوس فهو أحد الرهبان الذين عاشوا في المنطقة قبل تكلاهيمانوت في القرن السادس الميلادي. كان الدير مغلق الأبواب، والكثير من البسطاء متجمعون خارج الأسوار. في الخارج كانت هناك لافتة بالتعليمات تقول إن النساء غير مسموح لهن بدخول الكنيسة خلال فترة الطمث، وإن الرجال والنساء الذين مارسوا الجماع غير مسموح لهم بالدخول خلال فترة 48 ساعة، وإن على الراغب في الدخول شراء تذكرة بمائة برّ إثيوبي. تبدو هذه تعليمات متشددة جدا، كما أنه ليس من الشائع أبدا أن تكون زيارة الأماكن الدينية بتذاكر، لكن الراهب الذي يجلس في كشك التذاكر أخذ يبرر هذا الأمر بحاجة الدير إلى المال للصرف على فقراء المنطقة. للدير أهمية خاصة جدا في البلاد، ويُعتبر رئيس دير تكلا هيمانوت ثاني أكبر رتبة دينية في إثيوبيا بعد البطريرك. يقع الدير بين أحد روافد النيل الأزرق وجرف جبلي. مع الأسف لم يتبقَ من المباني القديمة للدير شيء، أما الكنيسة الحالية -التي تظهر في الصورة والمبنية فوق ضريح القديس- بنيت أيام الإمبراطور هيلاسلاسي عام 1961. السبب هو أن الدير تعرّض للتدمير عدة مرات، حيث تعرّض لتدمير شامل على يد أحمد بن إبراهيم الغازي (1507 - 1543) خلال غزوه لإثيوبيا، حيث قام أحد أتباعه بتدمير الدير وإحراقه عام 1531. أما أحمد بن إبراهيم الغازي (الذي يعرف أيضا بأحمد جُري أي أحمد الأشول) فهو أحد سلاطين سلطنة عَدل التي كانت تشغل منطقة جيبوتي وأجزاء من الصومال وإثيوبيا وإريتريا في الفترة من 1415 حتى 1577. تمت إعادة بناء الدير في 1699 عقب زيارة الإمبراطور إياسو الأول، ثم في عهد الإمبراطور فاسيليدس تعرضت أراضي الدير للتخريب أثناء غزو الأورومو. عام 1937 أثناء فترة الغزو الإيطالي لإثيوبيا، وعقب محاولة الاغتيال الفاشلة للحاكم رودلفو جرازياني (الذي يعرف أيضا بجزار إثيوبيا وجزار ليبيا)، اعتقد الحاكم أن رهبان الدير كان لهم علاقة بمحاولة الاغتيال، فأمر القوات الإيطالية بقتلهم، فقامت القوات بارتكاب مذبحة في الدير وقتلت فيها 297 راهبا و23 خادما. تكلا هيمانوت هو أشهر وأعظم قديسي إثيوبيا، وهو مشهور أيضا في مصر لأنه زار مصر في إحدى فترات حياته، والتقى برهبان الأديرة المصرية. ولد تكلا هيمانوت في القرن الثالث عشر لأب كاهن وأم كانت عاقرا، رغب الوالدان في تزويجه لكنه نذر نفسه ليعيش بتولا، ورُسّم شمّاسا ثم قسّا، وصار يجول في البلاد مبشّرا بالإله الحقيقي ومحاربا لعبادة الأصنام بين القبائل الوثنية، وظل القديس يتنقل لسنين طويلة في المدن والقرى وانتشر صيته في كل مكان. تحكي سيرة القديس أنه ظل متعبدا لمدة 12 سنة في دير يدعى "دير أدوجاي"، وكان الدير مرتفعا على جبل، وكان الرهبان يربطون من يريد النزول من الجبل بحبل لأنه كان شديد الانحدار، وفي إحدى المرات أثناء نزول القديس انقطع الحبل وسقط من الجبل، فبرزت له ستة أجنحة حملته إلى الأرض بسلام، ولهذا يرسم القديس بستة أجنحة كما نرى في الصورة. استقر القديس أخيرا في أرض الشواريني وبنى هذا الدير وصار له تلاميذ كثيرين من الرهبان، وظل 29 عاما في مغارة زاهدا ناسكا يمارس الصلاة والتعبّد والتأمل، وكان يقف على ساق واحدة أثناء الصلاة حتى يظل ذهنه منتبها ولا يغفل عندما تطول الصلوات، وظل يقف على ساقه اليمنى لفترات طويلة جدا حتى يبست ساقه وانكسرت، فأخذها تلاميذه ولفوها في لفافة، أما هو فصار يقف ليصلي على ساقه الأخرى، ولم يكن يخرج من مغارته ليرى النور في سنينه الأخيرة، مداوما على الصوم والنسك حتى صار جسده كالخشبة المحروقة، ثم مات أخيرا بداء الطاعون وكان عمره 99 سنة وثمانية أشهر، وبكته كل مدن وقرى إثيوبيا. تقع المغارة أعلى الجبل لكن طريق الصعود إليها شديد الوعورة ويستغرق وقتا طويلا، وهناك نبع ماء بالأعلى يتساقط ماؤه على جدران المغارة ثم ينحدر على الجبل، هذا الماء يعتبر مقدسا لدى الإثيوبيين. مع الأسف كان الوقت قد قارب على الغروب، ولم تكن هناك فرصة للصعود إلى الجبل وزيارة المغارة. استغرقنا ثلاث ساعات صعبة أخرى في طريق العودة، شعرت بعدها أنني بحاجة إلى النوم لثلاثة أيام!
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (6) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (7) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (8) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (9) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (10) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (11) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (12) أديس أبابا 13 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: