في محل لبيع التذكارات، حاولت البائعة إقناعي بشراء ميدالية تحمل صورة زيناوي، صورة زيناوي في الحقيقة ليست من الأشياء الجميلة المبهجة التي يمكن للمرء الاحتفاظ بها في جيبه. سألت البائعة: ؟Is he a good man or a bad man فكَّرَتْ قليلا ثم قالت: Good man. تذكرتُ البسطاء لدينا الذين كانوا يحبون مبارك ويرون أنه بمثابة أب، ربما لأنهم كانوا لا يعرفون أحدا غيره، وكانوا يظهرون على شاشات التليفزيون أثناء الثورة ليقولوا أشياء من قبيل: "يكفي أنه حَمانا"، وأنه "ما سلّمْش البلد"، بغض النظر عما تعنيه هذه التعبيرات. كنت قد لاحظت منذ أتيت هنا الانتشار المهول لصور زيناوي في كل مكان في العاصمة، لافتات لا عدد لها بكل الأحجام تنتشر في كل مكان وبداخل المصالح الحكومية أيضا. ملس زيناوي (1955 - 2012) هو رئيس إثيوبيا (1991 - 1995) ثم رئيس وزرائها (1995 - 2012) بعد وفاته تولى نائب رئيس الوزراء هايلي مريم الحكم، وسيستمر فيه حتى الموعد الطبيعي لإجراء الانتخابات عام 2015 وفقا للدستور الإثيوبي. حكم زيناوي إثيوبيا 21 عاما بقبضة من حديد بعد استيلائه على السلطة عن طريق انقلاب عسكري، خلال فترة حكمه استطاع أن ينكّل بكل أشكال المعارضة ويلقي بها في السجون، فبعد انتخابات 2005 المشكوك في نزاهتها ألقت الشرطة القبض على العديد من زعماء المعارضة، وقتلت قوات الأمن رميا بالرصاص أكثر من 200 شخص في التظاهرات التي اندلعت اعتراضا على التزوير، كما اعتقلت أكثر من 20 ألف شخص. في 2009 سنّ زيناوي قانونا لمكافحة الإرهاب اعتقل به المعارضين والصحفيين، ثم في انتخابات 2010 التي هيمن عليها حزبه اتهمته المعارضة بتزوير الانتخابات وطالبت بإعادتها، وكان زيناوي قد اكتسح الانتخابات بنسبة 99%، وقال إنه لم يكن ينوي الترشح لفترة جديدة لكن حزبه أجبره على ذلك! (يبدو هذا الكلام مألوفا! تُرى من الذي كان يُسمعنا نفس هذا الكلام في مصر؟!) ومرة أخرى اعتقل المعارضين وحُكم عليهم بالسجن المؤبد بتهمة الخيانة، إضافة إلى هذا فهناك انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان خلال عهده وعمليات اضطهاد وتمييز لبعض الأعراق خصوصا طائفة الأورومو، كما زاد في عهده تدهور العلاقات مع مصر. عام 1995 تعرض الرئيس السابق حسني مبارك لمحاولة اغتيال فاشلة على يد أعضاء الجماعة الإسلامية في أديس أبابا، لم ينقذه منها سوى السيارة المصفحة التي كان رئيس مخابراته عمر سليمان قد نصحه قبلها بأخذها معه من مصر إلى إثيوبيا، بعد هذه الحادثة أدار مبارك ظهره لإفريقيا لسنين طويلة، مما أدى إلى تدهور وضع علاقات مصر في القارة السمراء، يُذكر أن حسين شميط أحد قيادات الجماعة الإسلامية ومهندس محاولة الاغتيال قد عاد إلى مصر آمنا بعد ثورة 25 يناير! تردد وقتها أن أطرافا في السلطات السودانية متورطة في الحادث، ففي يناير 1995 رفضت مصر طلب السودان لمناقشة النزاع على مثلث حلايب وشلاتين في قمة أديس أبابا، وفي يونيه من نفس العام وقعت محاولة الاغتيال. تردد أن وزير الخارجية السوداني ساعد الإرهابيين بنقل الأسلحة من الخرطوم إلى أديس أبابا عبر الحقيبة الدبلوماسية، حيث تسلمها الإرهابيون من السفارة السودانية بأديس أبابا، أما الحكومة السودانية فقد نفت أي علاقة لها بالحادث، لكن منذ ذلك التاريخ وضعت مصر قوات عسكرية في منطقتي حلايب وشلاتين، وقامت بطرد الشرطة السودانية والموظفين السودانيين من هناك. لفترة طويلة ظلت العلاقات المصرية الإثيوبية متوترة، ربما منذ منتصف السبعينيات، ففي عام 1976 وقّع السادات اتفاقية دفاع مشترك مع السودان أغضبت أديس أبابا، وساءت العلاقة أكثر عندما رفض السادات الحوار مع الوفد الإثيوبي الذي زار مصر في ذلك العام، مؤكدا ضرورة استقلال الشعب الإرتيري عن إثيوبيا أولا. بعد هذا زاد التوتر بسبب سعي السادات لتوصيل مياه النيل إلى سيناء، وفي عهد مبارك حصلت انفراجة مؤقتة في العلاقات بسبب اتخاذ مصر موقف الصمت أو الحياد إزاء مشكلات إثيوبيا مع جيرانها، إلى أن وقع حادث الاغتيال الفاشل فتدهورت العلاقة مرة أخرى. ظلت إثيوبيا ترى أن الحصة الكبيرة التي تحصل عليها مصر من مياه النيل لها دور رئيسي في المشكلات والمجاعات التي تتعرض لها إثيوبيا بسبب الجفاف، وفقا لاتفاقية 1929 (التي روجعت عام 1959) تحصل مصر سنويا على 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل (كان عدد السكان عام 1959 نحو 20 مليون نسمة، نصيب الفرد منهم 3000 متر مكعب، أما الآن فقد وصل نصيب الفرد إلى أقل من 700 متر)، ويحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب، لكن إثيوبيا غير راضية عن هذه الأمور، فوفقا للاتفاقية لا يمكن إقامة سدود أو مشروعات مائية على النيل في أي دولة دون أن توافق عليها القاهرة أولا. قادت إثيوبيا حركة التمرد الإفريقية ضد دولتي المصب، وكان لزيناوي دور رئيسي في دفع دول المنبع إلى توقيع اتفاقية عنتيبي في أوغندا سنة 2010 لاقتسام مياه النيل، وهي الاتفاقية التي وقعتها إثيوبيا مع أوغندا وتنزانيا ورواندا، ثم انضمت إليها كينيا وبوروندي، ورفضتها كل من مصر والسودان. تنتزع الاتفاقية حق النقض (الفيتو) من مصر فيما يتخذ من قرارات بخصوص النيل والسدود والمشروعات التي تقام عليه، إذ يكفي التصويت بالأغلبية على القرارات لتصبح نافذة، الأمر الذي رفضته مصر باعتبار هذا الحق حقا تاريخيا لها، فشنّ زيناوي هجوما حادا على مصر باعتبارها تقع تحت سيطرة الأفكار البالية المتعلقة بالحقوق التاريخية، وأعلن أنه ماضٍ في خطط إنشاء مجموعة كبيرة من السدود أكبرها سد النهضة، هذه السدود عند إكمالها ستقوّض حصة مصر المائية وتضعها في مشكلة حقيقية. ليست التوترات المصرية الإثيوبية الحالية جديدة من نوعها، بل إن الأمور قد وصلت في أيام الخديو اسماعيل -كما سنرى في الحلقة القادمة- إلى الحرب!
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (6) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (7) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (8) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (9) أديس أبابا 10 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: