تحكي لي بنبرة حزينة وصوت كئيب عن الموقف المحرج الذي تعرضت له في الطريق، عندما كانت تهم لتعبر الشارع الرئيسي فاقترب منها أحد المراهقين وأخذ في معاكستها بألفاظ أخفها وطأة "أيوة يا مزة".. قد يرى البعض الموقف معتادا وشبه يومي فما الجديد إذن؟! المحزن أن ذلك تم وهي تمسك بيد ابنها الصغير ذي السنوات الستة عائدين من المدرسة، كان أول شيء فعله الابن هو سؤالها عن معنى ما قاله الرجل، ولماذا سلك هذا السلوك، وماذا يريد حين قال تلك الجملة و.. و.. لم أجد ردا مناسبا.. وأردت أن أخفف عنها، فسألتها أنا الأخرى "يعني إيه مزة صحيح؟!"، نظرة نارية منها جعلتني ألتزم الصمت. تأملت حديثها وحزنها الكبير وتخيّلتني مكانها في نفس الموقف فشعرت بثقل كبير على صدري، فانحدار الأخلاق لدينا لم يعد في إعطاء الحق في التعدي اللفظي والمعاكسات القبيحة، والتعدي الجسدي بالتحرش وامتهان المرأة في مجتمعنا لأبعد الحدود، فالأمر تطور ليصبح لا هيبة للسن ولا لوجود أبناء مع السيدة أو زوج أو أخ.. الانحطاط وصل مستواه الأدنى فقد صار التحرش -وليس المعاكسة فقط- يتم في وجود ثلاثة رجال أشداء، فما دمتِ أنتِ امرأة إذن أنت مستباحة باللسان واليد والعين وليس لك حق الدفاع، لأنك ستصيرين مستباحة أكثر بالتعرض لشخصك من المبررين للسلوك الشاذ، هذا بحجة ما ترتدينه أو ما الذي جعلك تسيرين في هذا الشارع، أو ما الذي أنزلك من منزلك من الأساس. "العيب" كلمة صارت غريبة في مجتمعنا، لن أقول عبارة ك"عيب دول بنات ناس" لأنها صارت بعيدة عن العقول، ولكن حتى "عيب دي مع ابنها"، "عيب دي قد أمك"، "عيب دي مع جوزها" صارت ثقافة بالية في شارعنا، بل ربما يجد البعض سعادة غامرة في امتهان المرأة مع زوجها أكثر لإشعاره بالحرج أمامها. أبي كان يشكو لي أنه صار يجد صعوبة بالغة في فهم مفردات الناس في الشارع وسلوك الشباب، يتعجب من الكل؛ صار يسب الكل بالأب والأم ويداعب أطفال المدارس لدى خروجهم من المدرسة بعضهم بعضا بسباب بذيء للغاية لأم كل منهم، يروي لي وهو مندهش وغاضب ويروي لي كيف أن أيامهم السباب كان نادرا ما يسمع في الطرقات إلا على لسان "العربجية" على حد قوله، وكان نوعية السباب نفسها بالمقارنة بسباب اليوم تعد شعر مديح!
أكتم عنه خواطري ومداعباتي السابقة له "إنتم ربيتونا زيادة عن اللزوم" حين أراه يتساءل عن جدوى ما ربونا عليه من آداب ومبادئ، إذا كنا سنحيا في مجتمع تنحدر أخلاقياته كل يوم، وينظر بأسى إليّ ويتساءل كيف سنربي نحن أبناءنا، فرغم ما نعلمهم إياه في البيت وحرصنا على مستوى المدارس التي يتعلمون فيها سيسمعون كلمة قبيحة ما أو يتعرضون لسلوك بغيض هنا أو هناك. كنا في السابق نرفض السفر حتى لا يتربى أبناؤنا على قيم وتقاليد غربية بعيدة عن ديننا ومجتمعنا، اليوم صار العكس هو الصحيح، صرت بالفعل أخشى على أبنائي أن ينشأوا على هذه السلوكيات المريضة وتعتاد آذانهم هذه البذاءات في الشارع وفي المواصلات بل والأفلام، فلو كان بيد المرء أن يحيط أولاده بقفص زجاجي كيلا تتسرب إليهم تلك الآفات لفعلها، لكن رغما عنك سيسمع ابنك ما لا تحب، وستتعرض ابنتك لما تكره، بل والأفظع أنهم سيرونك في مواقف لا تريد لعقولهم أن يعوها في سن مبكرة أو في أي سن أخرى. البذاءة صارت سمة العصر، حين ترى عبارات بذيئة تكتب على الحوائط في الشوارع أيا كان كاتبها مؤيد أو معارض للرئيس، لا مبرر على الإطلاق أن يعبّر عن ذلك بالعبارات الفجة المؤذية لكل عين تراها، فما بالك لو تحدثت عن عدم جواز التعبير بالكتابة على الجدران من الأساس! لا داعي لتصور رد مَن أمامك عليك حينها، فالبعض يتصور أن الثورة هي فرصة لإخراج أسوأ ما فينا، كل الشرور خرجت من مكمنها وظهر ما كنا نداريه بعضنا عن بعض من حقد وأنانية وسوء أدب، بدافع من الاحترام للذات والصورة الشخصية لدى الآخرين، الحياء انعدم من النفوس حتى لم يعد هناك معنى لتلك البارافانات وظهر كل القبح للعيان. صارت النصائح التي تسمعها مؤخرا، لا تشتبك مع أحد حتى لو استفزك؛ لم يعد أحد يضمن رد فعل الآخر ولا أمان حولك، فلا تتوقع أن يدافع عنك رجل شرطة حيث إنهم لا وجود لهم إلا في اللجان المرورية لجمع المخالفات، لا تعاتب من يستفزك أثناء القيادة حتى لو كان مخطئا، اتق شر الجميع، فالكل صار يحمل أعصابه على عصا قفز قد يقفز في وجهك أي لحظة. الكل مسئول، واللعبة السياسية يمتد أثرها لكل الساحات الأخرى، لا يمكنك مهما حاولت أن تظل في منأى عنها، ستطول حياتك بشكل أو بآخر، العبرة في كيفية تعاملنا معها، السياسة لعبة قذرة، هذه العبارة سليمة بالفعل، لكن ليس معناها أن تترك قذارتها تتسرب لكل أركان عالمك. لا أدري كم من الوقت سنحتاج لإصلاح ما أفسد في النفوس، ولا اليوم الذي سنستطيع النظر إلى وجوه الجميع لنجد الطمأنينة بدلا من الغضب، ولا الوقت الذي سنحتاجه لنعتذر لأطفالنا عما يرونه ويسمعونه حولهم من قبح، لكن ما أدركه تمام الإدراك أنه كلما ابتعد هذا الوقت صار العودة إلى قيمنا وأخلاقياتنا أعسر، وزادت الهوة بين عالم نربي فيه أبناءنا وعالم متناقض لكل ما تعلموه من مبادئ يصيبهم بالحيرة والتشتت.