لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. من الأفلام المعدودة التي لا يمكن تذكر أحداثها إلا وشريط الصوت الثري يتردد في ذهنك، هو هذا الفيلم، إن أغاني الثنائي سيمون وجارفنكل تتردد طيلة الفيلم تقريبا وتذكرك بكل مشهد فيه، ولعل في هذا عيبا غير متوقع، هو أن الأغاني رائعة إلى درجة أنها تخرجك من حيادية المشاهدة، دعك من أنها تخبرك بالطريقة التي يجب أن تحس بها! نفس العيب يقال عن مؤلف موسيقي ممتاز هو جون ويليامز.. لو أن موسيقى حرب الكواكب أو الفك المفترس أو هاري بوتر كانت أسوأ قليلا، فلربما تلافت هذا العيب الشهير. ارتبط فيلم "الخريج" كذلك بممثل عصبي قصير القامة عظيم الموهبة، هو داستين هوفمان، فهو ينتمي إلى المنجم الذي جاء منه آل باتشينو ودادلي مور.. هذا الفيلم علامة مهمة لدى جيل بأكمله.
ظهر الفيلم عام 1967 وأخرجه مايك نيكولز ظهر الفيلم عام 1967 وأخرجه مايك نيكولز، الذي قدّم لنا من قبل أفلاما شهيرة مثل "من يخاف فرجينيا وولف" و"المطب – 22" و"ذئب" و"حرب تشارلي ويلسون"، و"ذئب" هو فيلم الرعب الشهير الذي يتحول فيه جاك نيكلسون إلى مذءوب. كتب القصة تشارلز ويب عام 1963. تدور القصة حول خريج –بطبيعة الحال– يمر بفترة انعدام الوزن الشهيرة لدى إنهاء الحياة الجامعية. قبل هذا كان هناك قضيب قطار تتحرك عليه.. وكنت تعرف من أين جئت وإلى أين تذهب، اليوم لا يوجد طريق وأنت مسئول عن نفسك بالكامل، حرية مخيفة، حرية تذهب بصوابك. الفيلم يناقش سقوط شاب بريء في يد ليست بريئة جدا لامرأة تكبره سنا.. هذه تيمة رأيناها كثيرا، وعالجها صلاح أبو سيف ببراعة في فيلم رائع هو "شباب امرأة" عندنا، مع العلم أن "شباب امرأة" يسبق هذا الفيلم بأعوام عديدة. داستين هوفمان هو هذا الخرّيج، وهو يؤدي أداء لا ينسى في دور بنيامين برادوك الذي تخرج ويعود إلى بيت أسرته، ليس لديه أي مشاريع للغد ولا يشعر بالراحة عندما يسأله أهله عن خططه.. من الطريف أن هوفمان كان مصرّا على أنه لا يصلح للدور، وأن فتاة مثل كاترين روس لا يمكن أن تحب من يبدو مثله ولو بعد مليون سنة.. المنتج نفسه قال إن هوفمان يبدو كصبي بقال، لكن المخرج تمسك به، سوف تلاحظ في الفيلم أن هوفمان يتحرك دوما من اليمين إلى اليسار، بينما كل الآخرين يتحركون من اليسار إلى اليمين، هذا يعني أنه يمشي في اتجاه مخالف للجميع، تذكر اتجاه القراءة لدى الغربيين. شاهد تترات البداية مع أغنية جارفنكل الرائعة "أصوات الصمت"، سوف تتذكر على الفور أنك سمعت هذه الأغنية في فيلم Watchmen وكانت تعبر عن حقبة زمنية كاملة:
إضغط لمشاهدة الفيديو: هنا نرى عادة التوحد التي يمارسها بنيامين، العالم الكامل الذي يفر إليه تحت مياه حمام السباحة، حيث لا يرى أحدا ولا يراه أحد، إنه رمز للرحم، للسائل الأمنيوسي الدافئ الذي كان يعزلنا عن صخب العالم. شاهد الحفل، وعمه يقترح عليه أن المستقبل هو العمل في مجال البلاستيك:
إضغط لمشاهدة الفيديو: هنا تظهر مسز روبنسون، الممثلة الكبيرة آن بانكروفت في أشهر أدوارها على الإطلاق، حفرت مسز روبنسون نفسها في ذاكرة جيل كامل كان في سن المراهقة وقتها، إنها زوجة محامٍ صديق للأب ولها ابنة ناضجة، تدعو بنيامين إلى بيتها وتحاول أن تلف حبائلها حوله، هنا العبارة الشهيرة: "مسز روبنسون.. أنتِ تحاولين إغرائي.. أليس كذلك؟"، بالمناسبة لم تكن ضِعف عُمر بنيامين كما نعرف في الفيلم، في الحقيقة كانت تكبره بستة أعوام فقط؛ كان في الثلاثين وهي في السادسة والثلاثين، كما أنها كانت تكبر ابنتها في الفيلم بعشرة أعوام فقط. بعد أيام يلتقي بنيامين مع هذه المرأة الناضجة اللعوب، يحددان موعدا في بار فندق، ثم في غرفة بعد ذلك.
إضغط لمشاهدة الفيديو: هكذا تنمو العلاقة بينهما، لا شيء يربطهما على المستوى الروحي أو العقلي، لكن الفتى الذي لا يجد طريقا يمضي فيه يمشي مغمض العينين خلف السيدة الخبيرة التي تكبره بعشرين عاما. استمع إلى أغنية مسز روبنسون الجميلة هنا: إضغط لمشاهدة الفيديو: الطريف أن الأغنية كانت أصلا تحكي عن مسز روزفلت زوجة الرئيس، لكن المنتج أصر على شرائها لضيق الوقت، وغيّر الكلمات إلى مسز روبنسون. الفتى يتعرف على ابنة مسز روبنسون.. الفتاة الجميلة إلين (كاترين روس) التي تقاربه في السن والاهتمامات، هنا تنشأ المشكلة المعتادة: لا يقدر على أن يخبر إلين بعلاقته بأمها؛ الأم شرسة ويمكن أن تفتك به لو ظل مع ابنتها. في النهاية يعترف للفتاة بما كان منه مع أمها، لكن الأم تشرح لابنتها قصة أخرى ملفّقة حول أن بنيامين اعتدى عليها وهي ثملة، بالطبع لا يستطيع الدفاع عن نفسه بتاتا أمام هذه الكذبة. الأب يعرف بالأمر ويتم إبعاد إلين، مع الإعداد لزواجها قصرا من فتى يدعى كارل يروق للأب كعريس، لقد انتهى أي اتصال لها مع بنيامين. في ساعة الزواج يبدأ سباق بنيامين المجنون بحثا عن إلين، يفتش في الكنائس ويعرف أنها ستتزوج في سانتا باربرا، هذه اللقطات شهيرة جدا ويذكرها كل من رأى الفيلم، وفي الكنيسة يقتحم حفل الزفاف، وينادي إلين فتهرب لترتمي في أحضانه.
إضغط لمشاهدة الفيديو: "لقد فات الأوان" هكذا تخبرها الأم، لكن إلين تقول: "لم يفت بالنسبة إليّ". ويبدأ مشهد الفرار بثوب الزفاف، وملاحقة جمهور الزفاف لهما.. نحن نراهما من نافذة الحافلة الخلفية، يتبادلان النظرات، لقد تسرعا وتماديا، لا يعرفان أبدا ما سيكون ولا ما سيفعلان في الخطوة التالية، المهم أنهما معا، يكفينا أن الشباب للشباب.
إضغط لمشاهدة الفيديو: هكذا ينتهي الفيلم الذي يحوي لمسة من التراجيديا والكوميديا معا؛ يمكنك أن تجد فيه لمسة رومانسية هائلة، إن فيه شيئا يروق لكل واحد. رُشح الفيلم لجوائز لا حصر لها، ونال فعلا أوسكار أفضل مخرج لمايك نيكولز، كما أن مكتبة الكونجرس اعتبرته ذا قيمة عالية للتراث الثقافي البشري، لكني أكرر أن أهم شيء يقدمه هو شريط الصوت الرائع الذي أعطاه طابعا فريدا.