لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. عندما ترى فيلما واحدا للمخرج الأمريكي الشهير سام باكنباه؛ فأنت تعرف على الفور لماذا أطلقوا عليه لقب "سام المجنون". أفلام باكنباه تترجم على الفور بالكثير من العنف.. اللكمات.. الرصاص.. الدماء المتناثرة... أعنف معركة في فيلم على الإطلاق كانت هي المعركة الأخيرة في فيلم "الزمرة المتوحشة" Wild Bunch، والتي أجمع السينمائيون على أن أحدا لا يستطيع محاكاتها أو التفوّق عليها. لا شك أن الرجل يملك الكثير من السادية والعنف فعلا، ولكن هذا المجنون قدّم لنا أفلاما مهمة مثل: "الزمرة المتوحشة".. و"كلاب من قش".. و"القافلة".. و"هات لي رأس الفريدو جارسيا".. و"الصليب الحديدي". يعتبر باكنباه فترة الوسترن أزهى عصور أمريكا (عندما كان الرجال رجالا بحق)، ولهذا برع في تقديم أفلام تلك الفترة. باكنباه مولع كذلك بجماليات العنف؛ أي استعراضه بالسرعة البطيئة، وهذا قد يصل لدرجة اللوحات البصرية أحيانا، كما رأينا مع الشاحنات في فيلم "القافلة"؛ إذ تتسابق في الصحراء بالسرعة البطيئة وتتطاير الرمال، مع موسيقى الدنوب الأزرق لشتراوس، لدرجة أنهم وصفوا المشهد ب"باليه الشاحنات".
أطلق على المخرج سام باكنباه لقب "سام المجنون" في العام 1971 قدّم لنا الفيلم الشهير جدا والمثير للجدل "كلاب من قش"؛ الفيلم يتلخّص في عبارة: "لا مجال للتسامح.. من الأفضل أن تؤذي الآخرين بدلا من أن يؤذوك هم". الفيلم عن رواية للكاتب جوردون ويليامز بعنوان "حصار مزرعة ترنشر"، وعنوان الفيلم نفسه مستمدّ من أسطورة صينية قديمة، وقد منع الفيلم في بلدان عديدة؛ لأن جرعة العنف فيه أكثر من اللازم. سوف نتعرّف على أستاذ الرياضيات الأمريكي الشاب (داستين هوفمان) وزوجته الجميلة الطائشة نوعا (سوزان جورج)، وهو الذي لم يتحمّل البقاء في الولاياتالمتحدة التي ملأها العنف وسيطر على كل شيء فيها؛ فالتجأ إلى قرية صغيرة هادئة في الريف الإنجليزي. شاهد افتتاحية الفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: رسالة الفيلم واضحة هي أنه لا يوجد مرفأ آمن في هذا العالم. على الفور يبدأ التحرّش.. عمّال البناء الذين يصلحون بيته الجديد يضايقون زوجته ويلمّحون لها، ثم يخنق أحدهم قطة الزوجة ويعلّقها في غرفة نومها، إشارة واضحة إلى أن بوسعهم الذهاب إلى حيث يشاءون وعمل ما يريدون.. الزوجة في حالة إحباط مزمنة؛ لأنها ترى أن زوجها وديع وضعيف أكثر من اللازم.
إضغط لمشاهدة الفيديو: الزوج داستين هوفمان متسامح ومُصرّ على أن العمّال لم يفعلوا هذا، وهو كعادة كل مننا يعتقد أن بعض اللطف في المعاملة يمكن أن يفتح الأبواب الموصدة على القلوب، لكن هذا خطأ قاتل في عالم سام باكنباه.. يزداد تحرش العمال وسخريتهم منه. وفي ذات مرة يطاردونه بسيارتهم ليدفعوه للاصطدام لكنه يفلت منهم.. يستمرّ حرصه على عدم الاحتكاك وتفويت الفرصة عليهم. يُبدي الشباب بعض الاستعداد لمصادقته، ويدعونه لرحلة لصيد البط؛ بل إنهم يقدّمون له بندقية جيدة بدلا من بندقيته العتيقة، وتبلغ السخرية ذروتها عندما يوقفونه بين الأحراش لاصطياد البط، ويطلبون منه ألا يتحرّك غير عالم أنه بهذا يلعب دور الأحمق. في الوقت ذاته يتسلّل عدد منهم إلى بيته ليفاجئوا الزوجة الوحيدة، ويغتصبونها في مشهد طويل قاسٍ وشهير جدا (المشكلة أن مقاومتها ذابت سريعا وسلوكها لم يخل من قبول)، ويتداخل هذا مع لقطات له وهو يصطاد البط فتسقط بطة صريعة.. يمسكها فيجدها ملوّثة بالدماء، ويصيبه الهلع من هذا. يعود لداره ليكتشف ما قام به هؤلاء الأوغاد البريطانيون مع زوجته. في الوقت ذاته تدور مأساة أخرى في القرية؛ روميو وجولييت بشكل أكثر وحشية.. هناك شاب يحبّ ابنة أحد زعماء القرية المشهورين بالعنف والشراسة. الزعيم يعرف أن الشاب مع ابنته فيجمع البلطجية مصممين على عقاب الشاب.. ما يحدث هنا هو أن الفتى يفاجأ بأن حبيبته تموت بين ذراعيه.. لم يقتلها لكن قلبها كان ضعيفا واهنا.
إضغط لمشاهدة الفيديو: أي إنه وجد نفسه فجأة متهما بخطف وقتل ابنة أكبر وغد بلطجي في القرية.. لقد انتهى أمره إذن..
إضغط لمشاهدة الفيديو: هنا يتلاقى الخطان.. لقد فرّ الفتى المذعور لتصدمه سيارة أستاذ الرياضيات الذي يحمله معه إلى بيته ليعنى به ويحميه. أستاذ الرياضيات يتصل بالشرطة فلا تأتي ثم يطلب معونة رجال القرية، والحقيقة هي أنه فجّر بوابة من بوابات الجحيم؛ لأن الجميع عرف أن الفتى عنده في البيت. خلال دقائق تأتي القرية كلها لتحاصر بيته.. هات لنا الفتى القاتل لنذبحه.. من ضمن المحاصرين هؤلاء العمال الذين اغتصبوا زوجة أستاذ الرياضيات. موقف الأستاذ ثابت.. هذا الفتى في داري وسيظلّ آمنا ما دام فيها، ولن أسلّمه إلا لرجال الشرطة. الزوجة تبكي وتحاول إقناعه بعدم لعب دور البطولة لكنه يتمسّك بموقفه. هكذا تتصاعد تيمة الحصار، مع محاولات الفلاحين اقتحام البيت، لدرجة قتل رجل الشرطة الذي ينصحهم بالتعقّل. يشعلون النار في البيت ويقطعون سلك الهاتف..
إضغط لمشاهدة الفيديو: الزوجة تحاول أن تسلّمهم الشاب، لكن داستين هوفمان يمنعها.. وهكذا نرى الصورة القاسية العنيفة من فيلم "وحدي في المنزل".. الأستاذ يملأ بيته بالمصايد والفخاخ ليوقع بالثيران الغاضبة التي تحاصره.
إضغط لمشاهدة الفيديو: المذبحة قاسية جدا.. وقد كان انتقام الزوج عنيفا، وتصل الأحداث لذروتها عندما تفرّغ الزوجة الباكية رصاص البندقية في أحد المتسللين.. لقد تعلّمت بدورها حرفة القتل. تحطّمت نظارة الزوج وهذا رمز مهم يلخّص كل شيء.. في النهاية يحمل الشاب الجريح ويضعه في سيارته وينطلق بها.. يقول الشاب في الطريق: - "أنا لا أعرف أين بيتي"!! فيقول الأستاذ الجامعي: - "ولا أنا!". "لا يوجد بيت لأحد في هذا العالم العنيف".. هذه هي الحقيقة القاسية التي يخبرنا بها سام باكنباه.. يجب أن تتعلّم لعبة العنف وأن تكون أقسى من معذّبيك، عندها فقط سوف تكتشف أنهم "كلاب من قش". شاهد تريلر الفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: "كلاب من قش".. فيلم عنيف جدا ولا يُناسب الجميع، لكنه جوهري لدى أي مهتم بالسينما ويستحقّ مكانه في الحافظة الزرقاء.