وما زالت مشكلتنا المتمثلة في محاولة إتمام الزيجتين بلا حل.. الفيلا التي كنا نعتبرها الثروة التي نمتلكها في الحياة اكتشفنا أنها عديمة القيمة تماما ما لم تهدم، قيل لنا إنه لا أمل في استصدار قرار بهدم الفيلا إلا إذا كانت آيلة للسقوط بحيث تصبح خطرا على حياة ساكنيها وعلى العقارات المجاورة. نمت لديّ كراهية شديدة للمكان، ومن الغريب أن يتحوّل حبي للمكان الذي وُلدت ونشأت فيه ولم أعرف غيره طيلة سنين حياتي إلى كل هذا الكره، صرت أكره الجدران ولون البلاط والكراسي والطاولات والأسِرّة والحجر الذي يستقر في صالتها، أريد أن أمسك فأسا وأحطم به كل شيء هنا. صارت الكراسي تؤلمني حين أجلس عليها، وأتقلب أرقا على السرير حين أستلقي عليه، وأظل فاتحا عينيّ إلى أن يبزغ الضوء، صرت أصاب بالإمساك كلما دخلت حمامها، وتهاجمني روائح كريهة حين أفتح نوافذها، وأختنق من حرارة الجو حين أغلقها. صارت حياتي مستحيلة مع كل هذا الكره.. أريد أن أهدم هذه الفيلا بأي شكل حتى ولو سقطت على رأسي ودُفنت تحتها، وعزمت فعلا أنا وأخي على التحايل لهدمها، توقفنا عن إجراء أية إصلاحات بها حتى الضروري منها، إذا كان هناك صنبور ينقّط تركناه يزعجنا طوال الليل، لم نعد نقوم بتغيير المصابيح الكهربية التي تحترق، رغم أن هذا كان يجعلنا نعاني من ظلام بعض الغرف، فلا نرى شيئا فيها بعد الغروب. اكتشفنا أننا بهذا لا نضايق سوى أنفسنا، لكننا كنا نشعر بأن أي أموال تنفق على هذا المكان الجدير بالهدم هي أموال ضائعة، أما الخطوة الفعالة الحقيقية التي اتخذناها لدعم خراب الفيلا فهي أننا قمنا بتركيب خرطوم طويل على إحدى الحنفيات ووضعنا الطرف الآخر في الحديقة بجوار أساس الفيلا. وصرنا نفتح الماء طوال الليل ثم نغلقه في الصباح، على أمل أن يؤدي كل هذا الماء إلى إتلاف أساس الفيلا، خاصة وأن الأساس من الحجر على الطريقة القديمة في البناء وليس خرسانيا كهذه الأيام، ظللنا على هذا الحال أياما طويلة، حتى إن الماء لم يكن يجف مطلقا حول الفيلا وقد تجمع في برك كبيرة هنا وهناك، وقد تلفت معظم النباتات النامية في الحديقة وتعفّنت جذورها. صارت هناك رائحة عطن وعفن دائمة في المنطقة، إلا أن الفيلا لم يبد أنها تأثرت، كما لم تبدأ الشروخ التي ننتظرها في الظهور.
***
لكن الفرج جاء من اتجاه آخر. أتى من قلق حَمي -الذي هو حمو أخي أيضا- من ألا تتم الزيجتان ويضيع مستقبل ابنتيه بسبب موضوع الفيلا التي لا نقدر على هدمها أو بيعها أو الاشتراك في السكن فيها، فكان أن تطوع بابتياع شقة ليسكن فيها أحدنا، بينما يسكن الآخر في الفيلا، وبهذا تحل مشكلة الزيجتين. صمّمت الأخت الكبرى على ألا تسكن الشقة، رغم أن أخي كان يفضّل أن يسكن هو في الفيلا باعتباره الأكبر والأجدر بالسكن فيها ليكمل مسيرة الجد والأب، وكأنها مسيرة اكتشاف الذرّة، لكن خطيبته صمّمت أنها لا يمكن أن تسكن في هذه "المخروبة" على حد قولها. وبعد أن حُلّت المشكلة وصارت الفيلا من نصيبي، ندمت على كل هذا التخريب الذي صنعناه فيها، وعلى كل هذه المياه التي صببناها في أساساتها. بدأ أخي في نقل حاجياته إلى الشقة التي أعطاها له حموه، وبدأت أنا في تجديد الفيلا، استخدمت مدخراتي طوال هذه السنين إضافة إلى مبلغ أعطاني إياه حَمي من خلف ظهر ابنتيه وأخي، على أساس أنه "يشتري رجلا".. الحق أننا محظوظين -أخي وأنا- بهذا الحَم وبهاتين الزيجتين.. لقد بدا أن الحياة ستبتسم لنا أخيرا.
***
بدأت العمل في الفيلا، سأقوم أولا بتغيير البلاط المتهالك وتركيب سيراميك جديد، بعدها سأقوم بتغيير الأسلاك الكهربية في الحوائط وتغيير الحمامات ثم عمليات الطلاء.. إن هذه الأشياء تتكلف كثيرا هذه الأيام، لكنني سأحاول الاقتصاد في الخامات قدر الإمكان. أتى العمال ليبدأوا في تكسير البلاط القديم، وبدأت المعاول تعمل، لكنهم اصطدموا بالحجر.. الحجر الذي يتوسط بهو الفيلا، والذي يرتفع لحوالي متر ونصف، كان العمال متعجبين من وجود شيء كهذا في بهو الفيلا، فهم لم يشاهدوا شيئا كهذا قبلا. كنت أود تكسيره ليصبح في مستوى الأرضية؛ إذ إن عملية إزالته وتحريكه من مكانه ستكون صعبة جدا، إلا أن الأزاميل والفئوس لم تؤثر فيه مطلقا، وعلى مدى نصف ساعة كاملة انهالت على الحجر كل وسائل التكسير دون أن يظهر عليه التأثر بما يتعرض له. اقترح أحد العمال أن نقوم بتسخين الحجر إلى درجة الاحمرار، ثم نقوم بصب الخل البارد عليه، وأضاف أن هذه وسيلة لا تخيب لتكسير أي حجر أيا كان نوعه، إلا أنني لم أستسغ الفكرة، وهكذا لم يكن هناك بدّ من تغيير الخطة إخراجه من مكانه بدلا من تكسيره. بدأ العمال في الحفر حول الحجر، وقد فوجئنا بأن له عمقا كبيرا لأسفل، يبدو كجبل الثلج الذي لا يظهر منه سوى جزء صغير فوق سطح الماء بينما أكثره مختف لأسفل، لم يكن هناك بد من تأجيل الأمر إلى الغد مع إحضار المعدات المناسبة. وفي اليوم التالي كان العمال متفرغين تماما بناء على طلبي لعملية إخراج الحجر، أحضروا قضبانا معدنية طويلة لاستخدامها كروافع لإخراج الحجر، وبدأ الحفر، استمر الحفر لفترة طويلة من النهار، ووصل عمق الحفرة إلى حوالي مترين كاملين أسفل مستوى البلاط دون أن نرى نهاية لهذا الحجر. هبطت إلى الحفرة بنفسي وأخذت أتأمله، كانت هناك نقوش واضحة وغائرة على الجزء المختفي أسفل الأرض، مما رجّح لي فكرة أنه كانت هناك نقوش فعلا على الجزء العلوي منه لكنها مُحيت بفعل الزمن. شعرت بقلق شديد، قد يكون هذا حجرا أثريا، وإذا كان كذلك فعلا فإن هذا سيعرضنا لإيقاف أعمال الإصلاح وربما لخطر نزع ملكية الفيلا باعتبارها تقع على منطقة أثرية، وربما تكون هناك مسئولية جنائية إذا تخلصنا من الحجر ولم نقم بإبلاغ الجهات المختصة، لا أعرف ماذا أفعل. إن حيازة الآثار في مصر تعتبر جريمة، وسأتعرض للمساءلة إذا تم اكتشاف هذا الحجر عندي، كما سأتعرض للمساءلة أيضا إذا تخلصت منه وكانت له قيمة أثرية.. لم أعد أعرف ماذا ينبغي أن أفعل.. لكن لا، يجب أن يخرج هذا الحجر من البيت بأي شكل، وجوده هنا وضع غير طبيعي، ويجب أن تعود الأمور لطبيعتها في هذه الفيلا. سأؤجر سيارة نقل وأنقله إلى الصحراء وألقيه هناك، أو لعله من الأفضل أن ألقيه في النيل من فوق أي كوبري، لكن كيف وشيء كهذا يحتاج إلى عشرة رجال ليزحزحوه من مكانه؟ فلنفكر في حل لهذه المشكلة فيما بعد، لكن الآن يجب أن نخرج هذا الحجر من المكان. خرجت من الحفرة وطلبت منهم مواصلة العمل، ووعدتهم بمكافأة إضافية إن تمكنوا من زحزحته من مكانه اليوم، ويبدو أن سيرة المكافأة قد فعلت فعل السحر في إلهاب حماسهم، حيث هبط اثنان منهم إلى الحفرة وبدءا في توسعة الحفرة قليلا، ثم حاولا زحزحة الحجر باستخدام القضبان الحديدية. كان الأمر صعبا، لكنهما استماتا لتحريك الحجر، هبط إليهما عاملان آخران لمد يد المساعدة، وبعد الكثير من "الهيلا هوب"، رأيت الحجر يتزحزح قليلا من مكانه، وقد صاحب هذا الأمر صوت طرقة مكتومة. ترك العمال الحجر وهللوا فرحا، وهللت معهم أنا أيضا، لكنه فجأة بدأ يغوص وحده إلى أسفل، وشعرت بالأرض تهتز، وكانت الفيلا نفسها تهتز وقد بدأ التراب يسقط من السقف على رءوسنا.. صرخ العمال وقفزوا من الحفرة، وهرولنا جميعا إلى خارج الفيلا، بينما كان التراب لا يزال يتساقط من السقف.
***
وفي الخارج كان الانهيار هائلا، بدأ البيت يترنح وجدرانه تقعقع وأحسست أنه يهبط إلى أسفل قليلا كأنه عملاق هائل يبرك على ركبتيه، ثم تهاوت الجدران واندفع السقف إلى الشارع وهو يدور حول نفسه نصف دورة ليسحق مجموعة من السيارات التي كانت تركن أمام الفيلا، وفي اللحظة التالية لم يعد من الممكن رؤية أي شيء، كان التراب يصعد إلى عنان السماء ليعمي العيون ويزكم الأنوف. كان الناس قد بدأوا يتجمعون في مجموعات حول المكان، وانتشر الصراخ والبسملة والحوقلة في كل مكان، وعند انقشاع جزء من التراب رأيت مئات الناس المحتشدين في نوافذ وشرفات الأبراج المجاورة والمقابلة للفيلا، آلاف الأعين التي تراقب الحدث، كان الأمر يشبه حفل تأبين عملاقا لموت البيت الذي كان يأوينا والذي شهد كل أحداث حياتنا. كان صوت سارينات الإسعاف وسيارات الشرطة يدوي آتيا من بعيد، وكنت قد بدأت أشعر بألم مذهل في صدري، في قلبي تحديدا، كان هناك شيء ثقيل جدا في مكان القلب يهوي لأسفل، كأن حجرا يهوي بداخلي ويضغط على أحشائي، أمسكت صدري بيدي الاثنتين وسقطت على الأرض أتلوى من الألم، أثار سقوطي أكوام الغبار التي تراكمت أشبارا على الأرض فصعدت إلى أعلى مرة أخرى. كانت عيناي مغلقتين بقوة من شدة الألم، حاولت أن أفتحهما عنوة لعلي أستطيع الاستنجاد بأحد، رأيت الناس من خلال الغبار وقد التفوا حولي محدّقين بي في إشفاق، أدركت أنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا لي شيئا.
الحلقة السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. الحجر (1) د. ميشيل حنا يكتب.. الحجر (2)