ما زال هيكل السيارة المحترقة يقبع في حديقة الفيلا حتى اليوم، وإن كان قد تغطى الآن تماما بأكوام القمامة وأوراق الشجر. دمّر هذا الحدث حياتي، ليس من السهل أبدا فقدان الأب في هذه السن المبكرة، وقد جعل هذا الأمر أمي مهمومة دوما لعظم المسئولية التي ألقيت على كاهلها، بالطبع كان المعاش ضئيلا ولا يكفي ولدين في مرحلة التعليم وأمهما، وأمي التي لم تكن تعمل قبلا اضطرت إلى العمل كبائعة في أحد المحال لتحصل على دخل إضافي يساهم في تخفيف عبء نفقات المعيشة.
***
وعلى مدى السنوات التالية تغيرت المنطقة تماما؛ كل الفيلات التي كانت تزخر بها المنطقة في الزمان الغابر، قد باعها أصحابها لتعمل فيها معاول الهدم وترتفع مكانها أبراج خرسانية هائلة لا يقل الواحد فيها عن عشرين طابقا. كان أبي قد رفض البيع في تلك الأيام لأسباب عديدة، منها الذكريات التي تحملها لنا جدران هذا البيت، كما أنه ظنّ أن انتقالنا من الحياة في فيلا إلى شقة صغيرة سيؤدي إلى هبوطنا درجة في السلم الاجتماعي، إضافة إلى أننا اعتدنا امتلاك المكان الذي نسكن فيه من الباب وحتى السطح، فظنّ أننا لن نرتاح إذا انتقلنا إلى عمارة كبيرة ليس لنا فيها سوى جزء صغير، كما أنه كان يكره الجيران والمشاكل اليومية التي يتسببون فيها بسبب تقاطع حياتهم معا، على أي حال فمن الصعب أن تكون هناك شقة تكفي حاجياتنا وكل الكراكيب المتراكمة منذ أيام جدي، والتي لم يكن أبي يرغب في التخلص من أي منها. بانتصاب الأبراج الضخمة حولنا تحوّلت المنطقة إلى جحيم حقيقي. ضوضاء لا تنتهي بالليل أو النهار، حركة السيارات لا تتوقف ولم يعد هناك أماكن لركن السيارات على وجه الإطلاق، فالشارع ضيق من الأساس ولا يحتمل كل هؤلاء الناس الذين انصبّوا للعيش فيه. كل برج كان يفتح في طابقه الأرضي بضعة محالّ تحتل الرصيف أمامها ببضائعها، وانتقل باعة الخضر إلى الشارع، وفي البرج المقابل للفيلا مباشرة افتتحت ورشة لسمكرة السيارات جعلتنا لا نستطيع النوم ليلا ولا نهارا، ناهيك عن الألفاظ البذيئة التي يتبادلها صبيان السمكري طوال الوقت، والشجارات الدامية التي تستعمل فيها المطاوي أحيانا، والتي لا تخرج أسبابها عن الخلاف التقليدي بين الندل الذي يعاكس الفتيات، والشهم الذي يدافع عنهن. والألعن من كل هذا هو القهوة التي تحتل ناصية الشارع، والتي تبيع البانجو جهارا نهارا، وتغلق الباب على روادها ليلا لمشاهدة القمر الأوروبي دون إزعاج، والتي لا أعرف سببا واحدا يمنع الأجهزة المعنية من مداهمتها سوى أن أصحابها يدفعون بسخاء، وبالنسبة لنا فقد أصبح المكان غير مناسب لوجود فيلا من الأصل، حيث بدت فيلتنا كشيء شاذ وسط المكان. ولأن الأبراج بنيت على كامل مساحة أرض الفيلات التي شيدت على أنقاضها، دون ترك أي جزء لعمل حديقة، فقد جعلها هذا ملاصقة تماما لسور حديقتنا، كأن سور الحديقة قد ارتفع عشرات الأمتار من الجهات الثلاث. منعت عنا الأبراج الهواء وصار الجو داخل الفيلا حارا لا يطاق، فلم يعد أي شباك قادرا على الإتيان بنسمة واحدة من الهواء، إضافة إلى المنظر القبيح للطوب الأحمر الذي بنيت به الأبراج، حيث لم يتم تغطية الطوب بالمحارة والدهان توفيرا للنفقات. أصبحنا في سجن كبير ودميم، ومن ناحية أخرى فقد صار سطحنا وبلكوناتنا وحديقتنا كلها مكشوفة لمئات الأعين التي تسكن في مستوى أعلى منا، صرنا هدفا للأعين المتلصصة، تلاحظنا كلما خرجنا إلى الحديقة أو صعدنا إلى السطح. أما المشكلة الكبرى، فهي القمامة التي يلقيها الناس من النوافذ على حديقتنا، عشرات النوافذ من الجهات الثلاث تلقي بالقمامة علينا من آن لآخر، حتى تحولت الحديقة إلى مزبلة، وقد يئسنا وتركناها في النهاية دون تنظيف؛ لأنه لا فائدة ترجى من توقف الناس عن هذه العادة. لم تكن الظروف سهلة، لكننا كبرنا وتخرجنا وعملنا، ثم ماتت أمي أيضا، وصرت أنا وأخي وحدنا في الفيلا.
***
خطب أخي الأكبر إحدى زميلاته في العمل، وعلى طريقة الأفلام العربية القديمة أعجبت أنا بالأخت الصغرى لخطيبة أخي وخطبتها أنا أيضا! أعجبني فيها بشكل خاص أنها تدخن الكثير من السجائر! كانت صريحة معي وكنت صريحا معها، عندما صارحتها بأنني كثير التدخين صارحتني هي أيضا أنها تدخن سرّا وأن أحدا في عائلتها لا يعرف بهذا الأمر، وأنا أحب الفتاة المدخنة بشكل خاص، ففيها قوة شكيمة وجرأة وسحر لا يقاوم. كان هذا سرّنا المشترك، نتحدث في الهاتف لساعات، أنا أدخن وهي تدخن على الطرف الآخر، وكانت تغلق غرفتها على نفسها بالمفتاح عندما تكلمني، وكان أهلها يتركونها دون إزعاج عندئذ، مما سهل لنا عملية التدخين المشترك عن بعد! قرّبنا سرّنا من بعضنا، وأردت أن أتم الزواج بسرعة، لكن لم تكن الأمور بهذه السهولة. لقد خطبنا -أخي وأنا- ونحن كبيرا السن نسبيا: أخي في السادسة والثلاثين وأنا في الثانية والثلاثين، نحن في عصر ارتفع فيه سن الزواج بشكل ملحوظ وانتهت فيه موضة النظام القديم في تأجير الشقق وبدأت موضة التمليك، كانت مشكلتنا أننا لن نستطيع أن نسكن معا في الفيلا إذا تزوّجنا، ليس لديّ مشكلة في ذلك ولا لدى أخي أيضا، لكن الفتاتين اللتين تقبلان بهذا الوضع لم تولدا بعد، كل فتاة تريد أن يكون لها مكانها المستقل الذي لا تشاركها فيه أخرى. كان من الممكن أن يسكن أحدنا في الدور الأرضي والثاني في الطابق العلوي، إلا أن الطابق العلوي أضيق بكثير من الأرضي بسبب اقتطاع جزء كبير منه كسطح كان يستخدم في تربية الطيور المنزلية على عادة أهل العصر الذي بني فيه المكان، كما أنه لا يوجد حمام في الطابق العلوي فالحمام الوحيد في الطابق الأرضي، أما مسألة البناء فتحتاج إلى سيولة لا تتوافر لدينا في ظل الارتفاع الهائل في أسعار مواد البناء، أشعر أن والدي قد ظلمنا ظلما بيّنا عندما لم يقم بيع هذه الفيلا. حاولنا أخي وأنا بيع الفيلا لأحد مقاولي الأبراج للاستفادة من ثمن الأرض المتزايد، فثمن الأرض يكفي كي يبتاع كل منا شقة منفصلة وليتبقى بعد ذلك مبلغ لا بأس به أبدا لكل واحد, إلا أن قانونا صدر بمنع هدم الفيلات قد قضى على آمالنا.. لم يعد هناك من يرغب في شراء الفيلا. عقار صغير لن يدرّ ريعا وسيعود بالخسارة على مالكه، ما لم يهدمه لينهض مكانه مارد خرساني آخر يحوي عشرات الشقق الضيقة كعلب الكبريت المتراصة فوق بعضها، يدفع فيها الناس مدخراتهم ليحصلوا على حجم ذي أبعاد ثلاثية يتحركون فيه وينتمون إليه. أصبت أنا وأخي بإحباط لا يمكن وصفه، تحطمت مرآة أحلامنا بحجر أخرق، نقف فوق ثروة ونحن فقراء.. ما أقسى هذا الشعور.
***
كنا نجلس -خطبيتي وأنا- في ذلك الكازينو، نثرثر وندخن! كنا نتحدث في كل الأمور الحياتية، من الجميل أن لنا نفس الآراء في كل شيء تقريبا، مما يشي بأن الخلافات المستقبلية بيننا ستكون شبه منعدمة، أو هكذا أتمنى.. أنفث دخان سيجارتي في وجهها، وتنفث دخان سيجارتها في وجهي، ونضحك! لكنها سألتني عن الحجر.. كانت متعجبة من وجود شيء كهذا في وسط بهو الفيلا. لها الحق طبعا، فالأمر لافت للنظر وأغرب من المعتاد، لكني لم أعرف كيف أرد.. لم يكن أبي قد أعطاني ردا عن هذا الأمر قبل أن يموت. اكتشفت أنني طوال السنوات التالية لموت أبي لم أتحدث عن الحجر سواء مع أمي رحمها الله أو مع أخي. كان شيئا عاديا في حياتنا لا يحتاج إلى نقاش، وكنت أنا أتجنب الحديث أو السؤال عنه.. كان هناك ارتباط في ذهني بين الحجر وبين حادث أبي، صرت أعتبر الحديث عنه نوعا من الشؤم. فجأة ونحن جالسان، انتابتني نوبة من الكحة الشديدة، وخرجت كمية كبيرة من البلغم من صدري هي جزء من نتاج سنوات طويلة من التدخين.. احتقن وجهي تماما وشعرت بعينيّ تدمعان.. شعرت خطيبتي بالقلق عليّ وصممت أن أذهب إلى طبيب للأمراض الصدرية في أقرب وقت ممكن، وأنا كنت أريد أن أذهب فعلا إلى طبيب؛ لأنها لم تكن المرة الأولى التي تداهمني فيها هذه النوبة.
*** قال لي طبيب القلب إن هناك تكلّسا شديدا في عضلة القلب؛ الكالسيوم يترسب في عضلة قلبي، وهذا ما جعل القلب يظهر في صورة الأشعة السينية. كنت قد أجريت أشعة على الصدر بناء على طلب طبيب الأمراض الصدرية الذي ذهبت أشتكي له من الكحة المزمنة التي تلازمني بسبب إدماني للسجائر.. كتب لي بعض الأدوية المذيبة للبلغم والموسعة للشعب الهوائية، كما نصحني بالتوقف عن التدخين. كان الطبيب يريد أن يطمئن إلى عدم وجود سلّ، ولهذا طلب إجراء الأشعة، ولم يكن هناك سلّ، إلا أنه رأى القلب بلون أبيض في الأشعة السينية، وقد كان هذا شيئا غريبا في هذا النوع من الأشعة الذي يُظهر العظام والأجسام المعتمة فقط، بينما تظهر العضلات ومن بينها عضلة القلب بشكل شفاف، نصحني الطبيب المتعجب من صورة الأشعة -والتي ظل محدقا فيها لفترة طويلة وهو معقود الحاجبين- بأن أذهب في أقرب وقت لمراجعة أحد أطباء القلب. ولم أكذب خبرا، ذهبت في نفس اليوم إلى أحد أطباء القلب المشهورين، الغريب أنني لا أشتكي من أي شيء بخصوص القلب، كشف عليّ الطبيب وأجري الفحوص المعتادة، ليس هناك ما يشي بوجود مرض ما، تشكك الطبيب في هذه الأشعة وطلب إجراء واحدة أخرى على وجه السرعة. عدت إليه في اليوم التالي ومعي الأشعة الجديدة، وكانت مطابقة للقديمة تماما، كان الطبيب متعجبا جدا، قال لي إن هذا لا يمكن أن يكون قلب إنسان حيّ، قال إنه يبدو وكأن هناك حجرا في قلبي.
يُتبع الحلقة السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. الحجر (1)