حين وقع زلزالي الرهيب كان النور ينضح من بين تلافيف الشجرة العجوز التي تعانق النافذة. كنت أروض النوم رغم تعب النهار في أرشيف المطحن وأتحايل علي الاحتقان البسيط الذي حل بصدري كضيف ثقيل, وأرده في نفسي مطمئنا الي نزلة برد, أو إرهاق العمل, وفاضت مشاعري كعادتها قبيل السحر فعزوته الي تباريح الهوي. ووضعت يدي علي صدري, فزحفت الي حيث تسكن تفاحة اللحم الطرية التي ترقص بين أضلعي فتسري الدماء في عروقي, وتتواصل الحياة. وقال هاتف من داخلي: هنا يسكن الألم. وأجبته, مستعيدا كل تجارب العشق وأيام الكدح: من حقه أن يشكو. وتوالت شكاواه كل ليلة, وشعرت أنه يئن من ذلك الشيء, الذي يقبض عليه, محاولا أن يمنعه من الرقص, الذي ألفه منذ أن كنت مضغة طرية, ترقد في رحم أمي. وتحيرت في معرفة هذا الشيء, واقتحمت أنفي رائحة المعقمات, وازدحم رأسي بالأطباء والممرضات, الذين كنت أصادفهم في طريقي الي غرف حل بها أصدقاء لي, كل علي حدة, وكل في مكان وزمان مختلفين. الأول كان قد طلبت منه إدارة شؤون العاملين رسم قلب وأشعة مقطعية عليه, ضمن الأوراق المطلوبة للتعيين في وظيفة حكومية بائسة, لكنها ملأت قلبه بسعادة غامرة في زمن البطالة القاسية. والثاني سد التدخين والدهن شرايينه فاحتاج الي عملية قلب مفتوح, استعار لها الأطباء أوردة من يده, وأوصلوها بقلبه المتعب. أما الثالث فكان ابن خالتي, وهو صبي يافع, عاني طويلا من ارتجاع الدم لارتخاء الصمام المايترالي, الذي ينغلق عند ضخ الدم, فيواصل جريانه في الشرايين والأوردة, يسقي كل خلايا الجسد. والرابع أظهرت الموجات فوق الصوتية للقلب قصورا في الصمام التاجي. والأخير كان جارنا الطيب, الذي مات فجأة, وهو غارق في ضحك مجلجل طويل, وشخص الطبيب الشرعي حالته بأنها سكتة قلبية نجمت عن تخثر الدم في الشريان الأبهر, فخانته الحياة بغتة. وهمس في أذني هامس خفي وسألني: أين تضع نفسك بين كل هؤلاء؟ وتوزعت الإجابات علي الحالات الخمس, فاتسعت حيرتي, حتي ملأت كل دنياي, وأضناني هم مقيم. وقلت لنفسي بعد أن ألقيتها ما وسعني في أحضان الرجاء: لكل داء دواء يستطب به. وندمت علي الليالي التي تنكرت فيها لذا الألم الخفيف حتي استفحل, وهزني هذه الهزة الصاعقة. كان يأتيني فأسخر منه, وأطرده من روحي وخاطري, من دون أن أتمكن أبدا من طرده خارج جسدي, الذي طالما غره الشباب المتدفق, والأمل الطروب. كنت تائها في خواطري المضطربة, وذكرياتي المشبعة برائحة الديتول المنبعث في جنبات المستشفيات والمصحات والعيادات الكبري, حين هاجمني حيوان خرافي بشع, وحاول أن يصرعني بضربة قاضية. انتفضت واقفا, ووليت وجهي شطر قرص الشمس الوليد, وفتحت النافذة فتدفق هواء الصبح طريا نديا, فدغدغ إرادة الحياة. وسحبت ما وسعني أنفاسا نقية. شهقت طويلا وزفرت سريعا, مرات ومرات, ورحت أهز رأسي في عنف وأضرب وجهي وكتفي بيدي اليمني, وأخمش لحمي بأظافري. وناديت بصوت رج أثاث الغرفة: يارب.... يارب وفي سرعة البرق خطفت زجاجة الماء البارد الموضوعة فوق الكوميدينو وصببته علي رأسي وصدري, ثم رفعتها, بعد أن قذفت كل مافيها الي شعري وصدري وملابسي, وضربت بها جبهتي ثلاث مرات, ثم ألقيتها, فارتطمت بالأرضية الخشبية, وخمدت بلا حراك. أما أنا فتحركت بعنف, طوحت ذراعي في الهواء, ورحت أمارس طقوسا رياضية عشوائية, وبان جسمي في زجاج النافذة كشبح يصارع كائنا مجهولا. فلما استعد هذا الكائن الرهيب للفرار, عدوت الي درج التسريحةالطويل, وجذبته بشدة من مقبضيه الفضيين اللامعيين, فانفتح علي أصناف من الدواء, ثم هوي من بين يدي علي الأرض, وبان لي شريط الأسبرين بلونه الأخضر, فخطفته ومزقته من جانبه, والتهمت قرصين. رميتهما في فمي, وأخذت أمصمها في عنف. والتقطت برطمان الفيكس, وضربت ثلاثة أصابع فيه, فعادت بقطعة طرية ناعمة منعشة, ودفعتها الي صدري, بالضبط فوق التفاحة المرنة العامرة بالحياة, ورحت أدلك يمنة ويسرة حتي ساح المرهم بين خلاياي. وما علق بالأصابع رفعته الي أنفي, ورحت أسحب منه أنفاسا نفاذة, أيقظت رأسي الخامل, ووسعت حدقتي عيني, فأمكنهما رؤية متاعبي بشكل أفضل. ورأيت نفسي في غمرة العودة الي الحياة جالسا علي مقعد خشبي بمقهي شعبي رخيص في ساقية مكي, أتابع لاعبي الشطرنج في شغف, وهم ينقلون القطع البلاستيكية بحثا عن ملكين متصارعين, يدفع كل منهما جنوده لقتل الآخر. كان اللاعبان وكل من يحيطون بهما يشفطون الدخان من أفواه النراجيل, وينفخون في وجهي وبجانبي, من دون قصد. وأنا أسحب, ولا أبالي من حصاد كيوفهم الملوثة, حتي أعود في آخر الليل برئتين معبأتين بالدخان الأسود. هكذا وجد الطبيب رئتين سوداوين, وأشار إليهما بإصبعه, وهما معلقتان بين يديه علي لوحة الأشعة, وقال: ارحم نفسك, أنت مدخن شره, وهذه هي النتيجة. وتعجبت من كلامه, وقلت له ساخرا: لم أدخن طيلة حياتي سوي سيجارتين اثنتين علي سبيل التجربة. فهز رأسه في استنكار وقال: كيف تصنع سيجارتان كل هذا السواد. وكنت قد قرأت كثيرا عن ضرر التدخين السلبي, لكني غفلت عنه, واعتقدت أن ما كتبه الأطباء والباحثون لأناس غيري. هكذا تغرنا الأماني, وتسرقنا الدنيا الكاذبة, ونحسب في أيام الشباب أن الصحة راسخة معنا رسوخ أسمائنا, وتواريخ ميلادنا, وننظر الي من أعيتهم الشيخوخة, أو أسقمهم مرض عضال, علي أنهم من كوكب آخر, أو من طينة أخري غير التي خلقت منها أجسادنا, قبل أن ينفخ الله فيها من روحه الجليلة الخالدة. وصارحت الطبيب بما دار في خلدي, فقال مبتسما: الآن عرفت السبب. ولأنني تعودت ألا أكون سلبيا في حياتي أبدا, فكان من الصعب أن أتقبل سلبية التدخين, وبدلا من الإقلاع عن أماكن السموم السوداء الطائرة, وضعت للمرة الأولي فم النرجيلة في فمي, وقبلتها كارها, أو مستطلعا في فضول غريب, ثم أقبلت عليها مطيعا محبا, وفتحت الطريق أمام الدخان ليجري في عروقي, وللنيكوتين ليحل برأسي فتدور وتسترخي في راحة عجيبة. وبمرور الأيام عجز الدخان عن هز رأسي, فبات التدخين مجرد عادة لا تخدر بدنا, ولا تطلق روحا من عقالها وتتركها تحلق في البعيد, كما كان يحدث من وهم في الأيام. لكني واصلت الجلوس علي المقهي, وانضممت إلي لاعبي الشطرنج بعد سنوات من الاكتفاء بالفرجة والتشجيع. ووجدت في شفط الدخان سلوي من حياة قاسية, وحبيبات لا ينتظرن ثمرة الكفاح, ولا تجود الدنيا بما يدنينا منهن فترة أطول. وتوهمت أن المتاعب تذوب في الدخان المسافر إلي حيث لا ندري, أو في قرقرة الماء البارد الحبيس داخل الزجاج السميك, وبعيدا عن المقاهي, أو حين لا أجد وقتا للذهاب إليها, رحت أدخن السجائر, فتضاعف حجم جيوش الدخان الزاحفة إلي رئتي. وتوالت السنون من دون توبة ولا رجوع, واستفحلت علاقتي بالنارجيلة, حتي اعتبرت أحجار المعسل معيارا للقيمة, فأقول لأصدقائي: المعيشة في هذه البلد أرخص من تلك, لأن ثمن حجر المعسل في الأولي أقل منه في الثانية أو أقول ضاحكا لزميل جديد في العمل: مرتبك لا يكفي لشراء خمسمائة حجر معسل في مقهي شعبي. وحملت التدخين مسئولية الهزة العنيفة التي ارتج لها قلبي, وكادت الحياة أن تهوي معه إلي النهاية المحتومة, لكني عجزت عن الإقلاع عنه تماما. خففت السحب النهم من فم النارجيلات المقرقرة أسبوعين فقط, ثم عدت إلي الشفط العنيف, صانعا حولي دوائر متلاحقة من الدخان, تطير في الهواء, خلافا لدوائر أخري لا أراها تطير إلي حويصلاتي ودمي. ولم تنقطع اليد الخشنة القابضة علي قلبي. كل ليلة تخدعني علي عتبات المساء, وتتسلل إلي داخلي, وترقد متربصة حتي يأتي موعد النوم, فتفرد كامل أصابعها, بأظافرها المسنونة, ثم تضغط علي التفاحة الطرية بعنف وقسوة, فأهب جالسا, وأهرع إلي النافذة, أو إلي الحمام, وأطلق الماء البارد فوق رأسي, وعلي صدري. ونعت الينا قريبة لنا زوجها ذات ظهر, فلجم الحزن عائلتنا, وذهب بعضنا إلي مأتمه للتشييع والعزاء, كنت أنا واحدا منهم. وبعد أن ذهب المشيعون, وقبل أن يحل المعزون, جلسنا إلي الزوجة نستمع إلي شرحها المبلل بالدموع للحظة الوفاة. رفعت رأسها المعصوب بطرحة سوداء, وقالت في أسي: مات فجأة. كيف؟ كنا نتحدث سويا بعد أن تناولنا الإفطار, وفجأة وضع يده علي قلبه, وراح يلهث بشدة, ثم سقط مكانه. كل هذا حدث في أقل من نصف دقيقة. وصمتت برهة ثم قالت: طالما حذرته من شراهة التدخين. ولسعت جملتها الأخيرة رأسي, ونظرت إليها مستطلعا, فشرحت: حذره الطبيب في الشهور الأخيرة من الضرر الذي تركه التدخين علي قلبه. أفهمه أن بعض شرايينه تكاد أن تنغلق. وسألتها متلهفا: هل كان يشعر بيد خشنة تقبض علي قلبه. لكنها لم تجب. اكتفت بالنظر إلي نظرة معبرة, فسرتها أنا علي أنها تقول: ما راح قد راح, ولا داعي لتقليب المواجع. في اليوم التالي, كنت أسير ليلا في شارع التحرير, مهموما بمتاعب الموت المفاجيء لصهرنا العزيز, التي حلت علي قلبي أنا, وعلي عقلي, فراح يقيس حالي علي حاله. وعند عمارة ستراند, أخذت أطيل النظر في لافتات الأطباء. أطباء في كل الأمراض والأوجاع. كبار وصغار. حكماء وتجار. ودققت النظر في لافتة مكتوب علي تخصص صاحبها أنه طبيب أمراض القلب بكلية طب قصر العيني, وزميل الجمعية البريطانية للأطباء. فدونت اسمه في ورقة, وطلبت في اليوم التالي من طبيب المطحن أن يحولني إليه, فرفض وقال: هناك قائمة أطباء معتمدة من كل التخصصات نتعامل معها, ولا مفر من ذلك. وكنت أعرف تماما نتائج هذا الطب الرخيص, فقررت هذه المرة أن أتعالج علي حسابي, وما شجعني أنني كنت قد حصلت قبل أيام قلائل علي دوري في الجمعية. دخلت العمارة مترددا, وسألت البواب فأشار إلي لافتة أخري علي الجدار الأيمن, موضح عليها رقم الطابق والشقة, وقال: الدور الخامس ودخلت المصعد لاهثا, ولما خرجت وجدت الشقة المطلوبة مفتوحة عن آخرها, وليس فيها سوي رجل قمحي اللون يجلس علي مكتب قديم, وثلاثة أشخاص, رجل وامرأتان. وانضممت اليهم, بعد أن دفعت ثمن الكشف, وجلست أطالع القلوب المرسومة علي الجدران, حمراء قانية, تخرج من فوهاتها خراطيم وردية, تتوزع يمنة ويسرة, وتنفتح هنا علي الفراغ. ولأول مرة أتفرس مليا في شكل القلب, فأجده أقرب إلي الكمثري منه إلي التفاح, فيسقط أول أوهامي. الوهم الثاني سقط حين راح الطبيب يلصق بصدري ضواغط جلدية قوية, تحبس هواء الحجرة علي لحمي, ثم وضع عليها أشياء تشبه مشابك الغسيل, وأوصلها بجهاز صغير, وطلب مني أن أتنفس بعمق. فلما انتهي قال: رسم القلب سليم, لنري الأشعة والتحاليل. وكتب في الروشتة طالبا أشعة بالموجات فوق الصوتية, وتحليلي دم وبول, ثم أوصي بمكان للأشعة وآخر للتحليل, وقال: هما المكانان الوحيدان اللذان أثق في نتائجهما. وواريت ابتسامتي, وقلت له: أنا موظف, وأعتقد أن المؤسسة تتعامل مع مكانين آخرين. فحك يده في ذقنه, وقال في امتعاض: حاول أن تقنع طبيب المؤسسة بهذين المكانين. فقلت له: ربنا يسهل. لكن طبيب المؤسسة ضحك طويلا, وهز رأسه في إمتعاض, وقال: لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع. ونظرت إليه مستطلعا, فقال, وهو يداري ابتسامة ذات معني: هذان المكانان لا يروقان لي أبدا, الأجهزة قديمة, والأطباء غير أكفاء والمحاليل المستخدمة مشكوك في جودتها. واكتسي وجهه بالجد, وتابع: إنها ليست أذواقا, بل مصالح. وفهمت ما يعنيه, وكنت أعرف أنه له أيضا مصالحه مع معامل تحاليل وأشعات أخري, فقلت: أنتما طبيبان, وهذا شأن لا يمكن أن نضارعكما في فهمه. المهم بالنسبة لي أن يجري التحليل والأشعة في أسرع وقت. وقررت أن أكمل الرحلة بعيدا عن طب المؤسسة. كان التحليل سهلا. جربته مرات في مناسبات أخري. يسحب الطبيب بعض دمك في حقنة, ومنها إلي أنبوبة صغيرة, يكتب عليها اسمك, ثم يعطيك علبة بلاستيكية, لتملأها بالبول, وتضعها خارج المرحاض, بجوار شقيقاتها, لمرضي آخرين, أتوا قبلك, في رحلة البحث عن أسباب الوجع. أما الذي كنت أجربه للمرة الأولي فقد كان هذا النوع من الأشعة. دخلت حجرة ضيقة, مقسومة إلي نصفين, تفصلهما ستارة بيضاء سميكة. وطلب الطبيب مني أن أتمدد علي أريكة راقدة بجوار الحائط, ثم وضع علي صدري مادة بنية اللون, طرية طيعة كشحم السيارات, وراح يفردها فوق المنطقة التي يرقد فيها القلب, ثم وضع جهازا عريضا فوق الشحم, ولوي عنقه, وأخذ يتابع شيئا يثير لغطا في جهاز الكومبيوتر. ولويت أنا عنقي أيضا لأري ما يجذب كل انتباه الطبيب, فوجدته أمامي, يملأ الشاشة. كان قلبي. ورأيته ورديا كأحلامي التي لا تنضب, وفي جنباته لون أزرق شفيف, وكأن السماء قد منحته قطعة منها. أمعنت النظر فيه بكل ما أوتيت من بصر وبصيرة, فبادلني النظر, من دون أن يكف عن الخفقان المزدوج, هنا في صدري, وهناك علي الشاشة المضيئة. كان يدق, ويلغط, والدم يرتج في دخوله وخروجه, الذي يمنحني الاستمرار علي قيد الحياة. ورأيت وكأنه يسألني عن سبب هذه المقابلة التي هتكت سري وسره, فقلت له في حزن: آسف لأني أجهدتك. فلم يرد, واستمر في الضرب والرج, منقبضا ومنبسطا, فعدت إلي القول: تبدو متعبا. فرق لحالي وقال: حالك من حالي فأمنت علي كلامه, وقلت: أوصيك بي خيرا فازداد خفقانه, وكأنه يضحك وقال: أوصيك أنت بي فقلت له علي الفور, ومن دون ترتيب: أنت في قلبي فعاد إلي الخفقان السريع, وارتج رجا قويا, فزع له الطبيب, فقلت له باسما: عدت إلي الضحك مني لكن لم يرد, واستسلم للطبيب, الذي كان يحرك الماوس فتكتب علي جنبات قلبي حروف لا أعرفها. وشرح لي الطبيب المعالج معني هذه الحروف في التقرير المصاحب لصورة الأشعة, والمنتهي بكلمة طبيعي, التي انشرح لها صدري وسألته متحيرا: ما المشكلة إذا؟ فابتسم وقال: اعطني نتيجة التحليل. فمددت إليه التقرير, فنظر فيه طويلا, ثم قال, وهو يشير إلي بضعة سطور في المنتصف, وقال: مستوي الكوليسترول لديك200 ملجم/ ديسيلتر أو6.3 ملي مول/ لتر, وهذا مستوي مرتفع يجعل هناك خطر للإصابة بأمراض القلب التاجية. فقلت له في حزن: سمعت أن هناك أقراصا لتخفيض الكوليسترول. فابتسم وقال: إتخذت هذه الأقراص علاجا فلن يمكنك الاستغناء عنها, كما أنها قد تضر بالصنف الآخر المفيد من الكوليسترول, ولذا أفضل أن تتعاطي أقراصا أخري تساعدك مؤقتا. وتناول القلم النائم في حضن أوراق وأدوية علي مكتبه, وكتبModuretic ثم أعطاها لي, وقال: قرص علي الريق. ومن بين الأوراق المكدسة علي مكتبه ألتقط واحدة, ومدها إلي, فرمقت قبل أن أمسكها جدولا محشوا بالكلمات, فلما مثل الكلام لعيني رأيت أنه نظام غذائي صارم. وتنهدت في ألم, فحدجني الطبيب بنظرة فاحصة وقال: الالتزام بهذا الجدول, وبعض التمارين الرياضية, كفيل بحل المشكلة تدريجيا. وخرجت من عنده بقيد جديد, وحلت في رأسي مشاهد لا تنسي من أيام الصبا, حين كنت آكل بنهم من الإناء الفخاري المملوء بالسمن البلدي المتجمد. أهشم قطعة من السمن بيدي, وأمددها في رغيف طري, وأرش عليها قليلا من الملح, أو السكر, ثم أقضمه بشراهة, فيذوب في فمي. وكان أبي يشجعني واخوتي علي الأكل, ويقول: السمن البلدي يبني الرجال. اليوم لا ينفع عتاب أبي, الذي رحل إلي رحاب ذي الجلال بعد أن سدت شرايينه. فالرجل كان يريد بنا خيرا, وكنا كثيري الحركة, فكانت قطرات السمن تذوب في دمائنا الساخنة باللعب في الشوارع والساحات, والكدح في الغيطان والمدارس. أما اليوم فأصبحنا من جلساء المكاتب الباردة, والطعام المشبع بالزيوت والشحوم الثقيلة. وباتت كل قطرة زيت أو شحم تحل في المعدة, تنتهي إلي بطن الشرايين فترقد ناعمة البال, أو تتمدد في جنباتها ثقيلة بطيئة, وتستطعم الكسل والاسترخاء, فتنام ملء جفونها في خيوط الدم المتثائب. ووضعت الجدول أمامي فأقلعت عن كثير من عاداتي الغذائية, ووضعت علي بعض الأطعمة علامة حمراء, وكتبت أمامها ممنوعة الاقتراب واللمس, فعلق في ذاكرتي طعمها الحلو المستطاب, وصارت جزءا من الأيام التي راحت, ولن تعود أبدا. وقلت لنفسي مواسيها: فقدنا في مسيرة العمر ما هو أعز من الطعام, ولم تتوقف الحياة. وشكوت لأصدقائي فأمطروني بنصائح عزيزة حول فضائل الثوم النييء, وزيت الزيتون, والشاي الأخضر, وزبدة الفول السوداني, وعسل النحل, وحبة البركة. ونقلت هذه النصائح لزوجتي فتحول الكلام علي سلع تملأ العين, موضوعة علي أحد أرفف المطبخ, فصارت لدينا صيدليتان صغيرتان, الأولي للأدوية الكيماوية, والثانية للطب البديل. كنت أنظر إليهما, وأقول ضاحكا: حديقة الدواء. أما حديقة الداء فكانت هناك في آخر الشارع, حيث المقهي الذي يرقص في لجة من ضياء. في تلك البقعة من العالم كانت تعيش دنياي المبهجة, فارضة نفسها علي العلب الخرسانية المتراصة في ثبات, وعلي دمي المسكون بحب الصحبة والسمر والشهيق المعبأ بالدخان. طالما خفقت المقاهي من وجع الغربة, حين حللنا علي المدينة ضيوفا ضائعين, جيوبهم خاوية, وقلوبهم مملوءة بالأمل. يحل المساء فتدب الدنيا في أوصالي, وأهبط من شقتي إلي تلك البقعة المنزوية بين جدارين, يلتقيان علي مهل, والتي تحتضن كرسيا واحدا, يطل علي مناضد وكراسي وأجساد مبعثرة في جنبات المقهي العامر بالزبائن. أجلس فتأتيني القهوة والنارجيلة, وتبدأ رحلة ارتشاف السموم اللذيذة. وأتمرد علي جدول الطبيب, فيهاجمني الكائن الخرافي المتوحش ليالي أخري, فأعود إلي الأكل منزوع الدسم, وأجاهد نفسي فلا أهبط إلي المقهي إلا مرة واحدة في نهاية الأسبوع, ويتسع الرجاء في تأجيل الغياب الأبدي, فتتواصل أيامي المتشابهة, من دون أن تنقطع الزيارات الثقيلة لعيادات الأطباء, ومنها إلي معامل التحاليل والأشعة, وإلي الشوارع المفتوحة علي غربتي وأنيني, فأسير بها هرولة, فاردا ذراعي وساقي عن آخرهما, فينتفض الدم الراقد ويفور, ويجري حتي يصل إلي آخر شعيرة في إصبعي الوسطي, ويدوس في جريانه الهائج المتعجل ترسبات الدهن المتكاسل, فيستكين الحيوان الخرافي المتربص داخلي, وتمر بعض الليالي هادئة. ---------------------------------- صدرت له: مجموعتان قصصيتان هما: عرب العطيات واحلام منسية. وعدة روايات منها: حكاية شمردل و جدران المدي وزهر الخريف. كما حصل علي عدة جوائز هي: الطيب صالح للابداع الادبي في القصة القصيرة عام.2011 جائزة هزاع بن زايد في قصص ادب الاطفال عام.2003 جائزة الشيخ زايد في التنمية وبناء الدولة عام.2010 جائزة أخبار الادب في القصة القصيرة عام.1994