"غيبوبة".. نطقها الطبيب فى لا مبالاة واضحة. نطقها والجمود يملأ قسمات وجهه.. قالها دون أن أشعر بالدماء تسيل من كل حرف فيها. قالها دون أن تحترق أعصابه لقولها أو يتمزق قلبه لنطقها. لم يكلف نفسه حتى بادعاء القلق أو التأثر.. كان من الممكن أن أسامحه لو ظهر لى تكلفه فى اصطناع نظرة دامعة أو نحت تعبير حزين على وجهه.. رغم أن واجبه الطبيعي أن يبكى ويحزن و يتمزق دون تكلف.. صحيح أن الراقدة على الفراش فى غيبوبة كاملة هى أمى أنا.. ولكنه يجب أن يتألم لألمها.. يجب أن يتعذب لعذابها ويصرخ لعجزها بل و يموت كمدا لتدهور حالها.. أعلم جيدا أن عشرات الحالات تمر عليه كل يوم.. حالات مثل أمى و أصعب.. أعرف أنه أصبح جامدا متبلدا عديم الإحساس ميت القلب.. أعرف أنه لم يعد يكترث لآلام و عذاب الآخرين.. ولكن هذه أمى.. أمى أنا ليست مجرد مريضة أخرى.. ليس من حقه أن يقف هكذا بمنتهى البرود غير عابىء بما تشعر به.. تبا له من حيوان قاسى! لم تكن حالة أمى بهذا السوء عندما جاءت إلى تلك المستشفى فى البداية.. كانت لا تزال ملامحها تنطق بالحياة.. كانت عيناها تغمرانى بنظراتهما الدافئة وشفتاها تمنحانى ابتساماتهما الحانية.. الآن لم تعد تشعر بى.. لم تعد تشعر بأقرب إنسانة لروحها وأحب مخلوقة لقلبها وهى تجلس بجوارها.. أنا ابنتها وصديقتها و حبيبتها.. أكلمها فلا تسمعنى و أسألها فلا ترد على.. تلك المستشفى الحقيرة.. لا يوجد أى نوع من الرعاية الطبية أو الإنسانية.. لا وجود للهدوء اللازم للمرضى.. لا أدوية مناسبة ولا أدوات طبية جيدة.. لا ممرضات مهتمات ولا أطباء أكفاء. أى مستشفى تلك التى تقطنها القطط وتدخل غرف المرضى بمنتهى الأريحية؟! مستشفى كئيبة رثة غير جديرة حتى بمعالجة القطط التى تستوطنها! كم صرخت حتى بح صوتى وأنا أطالب بضرورة نقل أمى إلى أى مستشفى خاصة محترمة فى القاهرة. كم حاولت إقناع الجميع بأن تلك المستشفى هى السبب فى تدهور حالة أمى.. كم تشاجرت مع إخوتى وسببتهم لأنهم جميعا ضدى.. كلهم يرون أننى حمقاء أنانية لا أفهم شيئا.. كلهم يحاولون إقناعى بأن نقلها خطر عليها وبأن حالتها لا تسمح بذلك.. كلهم يرددون نفس الكلام الأجوف.. "دى أعمار.. ومحدش عارف الخير هنا و لا هناك".. "لو ربنا كاتبلها الشفا هنا يبقى النقل مش هيجيب نتيجة".. أكره هذا الكلام المائع وأكره كل من يقوله.. كلام ظاهره الحكمة وباطنه الحمق والبرود والتبلد والقسوة.. الكارثة أن قراراتهم هى التى تنفذ دائما.. إخوتى الذكور الناضجين الذين يفوقوننى سنا وخبرة وعقلا.. و أنا الفتاة المدللة الأنانية المعتادة على تلبية رغباتها الحمقاء فى كل الظروف.. الجميع يرى الأمر كذلك.. وأنا أرى الجميع أغبياء. "أنا هكتب لها على محلول تروحو تجيبوه من أى صيدلية دلوقتى".. قالها الطبيب و هو يخط شيئا ما بقلمه السمج على ورقة مهترئة. ناول الورقة لأخى وتكلم معه قليلا ثم اختفى.. اقتربت من أخى ومن جديد أخبرته بضرورة نقل أمى.. ومن جديد عارضنى وهاجمنى واتهمنى بالحمق.. علا صوتنا ودخلنا فى شجار عنيف لينضم بقية إخوتى ليساندوه ضدى.. سببتهم جميعا والدموع تغمر وجهى ثم التقطت حقيبتى وانطلقت خارجة من الغرفة وأنا أحترق ألما وغيظا.. كانت الرغبة فى تحطيم أعناقهم والتجرع من دمائهم تجتاحنى بشدة! توجهت نحو الاستراحة بالخارج.. كانت خالية تماما إلا من قطتين تعبثان هنا وهناك.. جلست على أقرب مقعد ودفنت وجهى بين كفى واندمجت فى البكاء.. أمى تتعذب وأنا عاجزة عن فعل أى شىء والجميع ضدى.. أخرجت منديلا لأمسح وجهى تحسبا لدخول أحد.. لا أحب أن يرانى أحد بهذه الصورة.. وقعت عيناى على المقعد المجاور لى فرأيت علبة سجائر وقداحة.. هذه القداحة تخص أخى.. بالتأكيد نسى سجائره وقداحته هنا.. ولكنه لن يلبث أن يتذكرهم قريبا عندما يشعر بالحاجة إلى التدخين.. عندما يصبح "خرمانا" كما يقولون.. سجائر.. كل إخوتى يدخنونها منذ زمن. عندما كنت أسأل أحدهم لماذا يدخن.. يكون الرد دائما: "يعنى أولع سجاير ولا أولع فى نفسى؟!".. كلهم يدعون أنهم يدخنونها لأنهم معذبون ضائعون تخنقهم الظروف و تقسو عليهم الحياة. بهذا المنطق فمن حقى الآن أن أدخن التبغ فى عامود إنارة وليس فى ورقة بفرة! نظرت مرة أخرى نحو علبة السجائر.. نظرة كانت تحمل الاشتهاء و التردد معا.. ثم نظرت حولى فى قلق قبل أن تمتد يدي بحذر لتلتقط العلبة و القداحة لأدسهما فى الحقيبة ثم أفر خارجة.. توجهت نحو تلك "الخرابة" المسماه مجازا بحديقة المستشفى.. جلست على أحد المقاعد ثم أشرت بيدي لأحد الشباب العاملين بالكافتريا.. طلبت منه فنجالا من القهوة السادة الثقيلة رغم أنى لا أحب القهوة من الأساس.. ثم سألته : " بتدخن ؟ ".. نظر لى فى دهشة و ارتسمت علامات البلاهة على وجهه كأننى وجهت له السؤال باللغة الصينية!.. سألته مرة أخرى: "انت بتدخن؟".. فأجابنى: "آه.. بدخن".. أخرجت علبة السجائر من الحقيبة ثم فتحتها و ناولته سيجارة.. "خد دى.. بس عايزة القهوة بسرعة".. خيل إلى أنه فرح كثيرا بالسيجارة.. سيجارة أجنبية الصنع باهظة الثمن.. سيجارة "فاكهة" بالنسبة للسجائر المحلية الرديئة التى "هرت" صدره.. لابد أنه سينحى دهشته جانبا الآن.. بعد أن يستمتع بكل نفس من السيجارة سوف يندهش كما يحلو له عندما يتذكر أن من أعطته السيجارة فتاة جميلة محجبة "بنت ناس" ذبل وجهها من شدة الحزن واحمرت عيناها من شدة البكاء.. رغم أن الأطباء يحذروننى تماما منذ طفولتى من تناول القهوة لأنها خطر على مرضي القلب أمثالى.. ورغم أن قلبى الآن يؤلمنى بشدة وأشعر به يخفق بطريقة غير طبيعية.. أشعر أنه يتحين الفرصة ليتوقف إلى الأبد.. إلا أننى أرغب فعلا فى شرب القهوة وتدخين السيجارة.. أعتقد أن قلبى لن يتوقف الآن بسبب مجرد فنجال من القهوة وسيجارة واحدة.. وحتى إذا توقف فلا أعتقد أن هذا يعد انتحارا. أنا لم أشرب القهوة وأدخن السيجارة لكى يقتلانى.. فقط فعلت ذلك لأننى أرغب فى فعله. صحيح أن الانتحار شىء رائع ومغر حقا ولكننى مؤمنة تماما ولا أجرؤ عليه. أحضر الشاب القهوة ووضعها أمامى ثم انصرف.. أخرجت سيجارة من العلبة ووضعتها فى فمى ثم أشعلتها.. بدأت أستنشق الدخان وأنا أختبر تأثيره على وإحساسى به. الدخان يؤلم صدرى كلما استنشقته.. ألم لحظى وسريع ولكنه يحمل متعة ما. أعتقد أنهم يدخنون من أجل الإحساس بهذا الألم.. الأمر إذن يلعب على وتر ماسوشى ما داخل نفوسنا. تابعت تدخين السيجارة فى تلذذ.. نفث الدخان أمر ممتع جدا هو الآخر. ببساطة أنفخ لأخرج الدخان من صدرى.. ليتنى استطعت إخراج كل ما يجول بصدرى من شكوك وهموم وآلام بذات البساطة.. ليت الدخان يستطيع حرقها بالداخل أو إقناعها بالخروج معه! أنهيت السيجارة بالكامل فالتقطت فنجال القهوة.. شربتها بأسرع ما استطعت لأنتهى من طعمها الكريه.. أخرجت سيجارة أخرى من العلبة وأشعلتها.. يبدو أننى أحببت التدخين إلى الأبد.. التفت نحو نافذة غرفة أمى.. عندها رأيته.. ذلك القط الأسود كئيب المنظر يقفز من النافذة.. يتجه نحوى بثقة.. ينظر مباشرة إلى وتلتقى أعيننا.. يموء مواء هادىء مستفز ويهز ذيله ببطء.. أسمع صيحات عالية غير مريحة آتية من الغرفة.. أرى أخى الأكبر يخرج باكيا ويلحق به إخوتى محاولين التهدءة من روعه. أرى خالى يقترب من أخى فيخبره الأخير شيئا ما لتنطلق الدموع من عيني خالى.. أرى الجميع ينهارون ويجسلون على المقاعد باكين.. أبتسم ابتسامة ارتياح.. تتوجه يدي بتلقائية نحو حقيبتى.. أخرج السكين الذى وضعته هناك منذ دخول أمى المستشفى.. أضعه فوق شرايين يدي اليسرى ثم.. الدماء الساخنة تنطلق مسرعة.. تسيل لتغرق ملابسى وأبدأ فى فقدان الوعى.. أرجوك لا تسمه انتحارا.. فقط فعلت ذلك لأننى أرغب فى فعله.. صحيح أن الانتحار شىء رائع ومغر حقا ولكننى مؤمنة تماما ولا أجرؤ عليه !
أسامة أمين ناصف التعليق قصة جميلة.. أسامة أصبح ناضجا بحيث يستطيع إحكام السرد بأناة وحكمة ودقة، وأن يكتب عن الآخرين بمعرفة وعمق، حتى ولو كان الآخر هذه الفتاة المدللة، ولولا هذه الصفة التي وردت عرضاً أثناء المونولوج الداخلي لما كانت النهاية، التي تبدو فيها درجة من المبالغة، ملائمة ومنطقية. أكرر، لا يجوز لكاتب ناضج على هذا النحو أن يستمر في ارتكاب أخطاء نحوية. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة