حاولت التغلب علي تلك الرغبة في التدخين سرا والتلذذ بنفث الدخان في الهواء ، في الركن المظلم بسطح البيت العالي ، بعيدا عن أعين الأب والأخ الكبير والأخ الصغير ، كانت تراها متعة مجانية مختلسة من الزمن ، تري وتتابع دوائر الدخان وهي تحتسي القهوة المسائية وكأنها رجل علي وشك إتمام الأعباء الثقيلة الملقاة علي كاهله ، ولا يجد غير السيجارة ودخانها للترويح عن نفسه والتفكر في الأحمال الثقيلة التي ينوء بها ظهره ، لكنه فخور بذلك الإحساس . أما هي فتسرق السيجارة ، تختلسها ليلا من علبة الأب المسجاة في طمأنينة علي الكوميديون وبجوارها الولاعة ، تنظر لوجه الأب الذي أرخي سدوله تماما وأضحي طيبا عطوفا وهو في هيئة النائم ، ورغم هذا لم يكتمل انعقاد حاجبيه ، شمنها حتي أثناء النوم ، شخيره يعلو وينذر بتقلب احد جنبيه ، تختبئ وراء الستارة في عجل وتجد الأم تناوله وهو نصف نائم كوب ماء بارد يروي ظمأه ، يتجرعها علي عجل ويتجشأ ويعاود النوم علي جنبه الأيمن ، تري وجهه جيدا خلف الستارة الشيفون ، لو فتح عيناه وفركهما بقوة لرآها أو حسبها لص فيرديها قتيلة بمسدسه الميري الذي يعتز به من أيام الخدمة ، عندما كان أمين شرطة بالقسم المجاور للبيت . في هدوء وخفة تسحبت ومشت علي أطرافها وأخذت سيجارة واحدة وطارت بها لأعلي ، حيث السطح ، أشعلت السيجارة في نهم وفي ثوان معدودة أنفقت السيجارة وصارت مجرد عقب صغير وضيع ، نظرت له باحتقار بعد أن أفرغت متعتها وألقت به في إهمال وتمددت في دلال تنظر وتبحلق في السماء ولم يؤثر فيها لسعة البرد التي جعلتها ترتعش وتحوط نفسها بكلنا يديها . تراقب النجوم المتناثرة في السماء وتحدث نفسها في حكمة: - كتل نارية معلقة بالسماء ، نحبها لانها بعيدة عنا لكن لو هبطت علينا لاحرقتنا بهيدروجينها وهليومها . تغمض عيناها لبرهة وتحلم وتحدث نفسها مرة اخري : - مجرد حلم ، فليكن مجرد حلم . هيأت نفسها للحلم وابتسمت لنفسها لانها تركت البيت وتحررت من قبضة يد الاب الذي يصر ان يقبض عليها وهما يسيران في الشارع كما لو كانت طفلة في الخامسة ويتناسي انهاتقترب من الثلاثين . في الحلم رأت نفسها لم يكن حلما : وهي تسير عكس اتجاه الاب وتذهب الي ابعد متجر وتشتري علبة سجائر كاملة تدخنها دفعة واحدة وعلي مرأي من الناس الذيت ينظرون لها شذرا وتخرج لسانها لهم فيظنونها مجنونة ويقذفونها بما تطوله ايديهم من عصي وحجارة وحصي صغير . والاب يري كل هذا يمط شفتيه ولا ينهرهم بل كأن حاجزا من زجاج قد بينهما هي تراه ولا يراها ، هي تسمعه ولا يسمعها . وفي نشوة اشترت علبة اخري واتت عليها حتي شعرت بالصداع يتسلل الي رأسها لكن ما تزال السيجارة الاخيرة بين اصبعيها الوسطي والسبابة ،تنظر اليها في تردد حتي حسمت امرها وطوحتها علي الناس التي ينظرون لها في احتقار ولم تحسب ان النيران ستشب فيمابينهم ، وتطول ملابسهم ، رائحة الحريق في انفها وسخونة بالجو تحيط بها ، تحاول ان تتخلص من حلمها هكذا كانت تظن وتخرج منه ، لا تستطيع ، تشعر بوهج النيران علي جلدها ، يلفح وجهها ، شيات زاعق يخترق انفها. انه مجرد حلم عقلها يحدثها بذلك ، فلتأتي يد قويه تهزها او تزغدها حتي تستيقظ تريد ان تستيقظ من هذا الحلم . تتساءل اين ارادتها في توقيف الاشياء عند مرماها وافتعال الفرح لما تشعر بموجات من مد الاحباط وجزر الدهشة وفرحة اكتشاف روحها من جديد . ، لكنها لم تكف عن الهذيان وتخبرهم ان هذا مجرد حلم وانها الي الان لا تستطيع الخروج من شرنقة الحلم . ويتهمونها بالانحلال والفساد وهي سعيدة بذلك