كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى الحجر وأنا في نحو الثالثة عشرة من عمري، وقبل هذا كان وجود الحجر لا يمثل لي أي شيء غريب أو مثير للانتباه. بداية أقول إننا نسكن في فيلا في منطقة الزيتون، لسنا في الحقيقة من الموسرين أو أصحاب الأملاك، لسنا كذلك على الإطلاق، فمستوانا الاقتصادي يقع ضمن شريحة الطبقة المتوسطة، بل نحن أقل بكثير من مستوى الطبقة المتوسطة إذا جاز لي أن أقول هذا. أقول هذا لأن كل من يسمع أننا نعيش في فيلا فإنه يعتقد اعتقادا خاطئا في قدراتنا المالية، هذه الفيلا ورثناها عن جدي، وهي صغيرة الحجم من طابقين على الطراز القديم الذي لا يوحي بأي فخامة من أي نوع، كما أن تشطيباتها الداخلية من النوع الرخيص جدا، بلاط عادي في الأرضيات، والحوائط مدهونة بالزيت إلى المنتصف فقط، وباللون السماوي كعادة الناس في الأرياف، حوائط الحمامات مغلّفة بمربعات القيشاني الأبيض الصغيرة إلى منتصفها أيضا، والمراحيض من النوع البلدي. بالطبع أثّرت عوامل الزمن في شكل كل شيء ليصير أسوأ مما كان قبلا، فالحوائط كالحة والطلاء قد تقشّر معظمه في كل الحوائط تقريبا، كثير من بلاطات القيشاني مشروخ وبعضها مخلوع في أكثر من موضع. وبخلاف كل هذا فإننا لا زلنا نستعمل أثاث جدي العتيق حتى الآن، الخلاصة أن الفيلا بحاجة إلى إعادة تشطيب من جديد، مع إعادة تأثيث بالكامل، الأمر الذي يفوق قدراتنا المالية بمراحل. كان جدي -رحمه الله- موظفا في المتحف المصري في أيام الإدارة الإنجليزية للمتحف، وقد كان الموظف الحكومي شخصا مرموقا في تلك الأيام السعيدة؛ كان المرتب الحكومي يكفي ويفيض، وكان جدي يدّخر أيضا، ولم يكن مرتب جدي عاديا، فقد كانت له حظوة خاصة لدى مدير المتحف الإنجليزي بسبب إجادته التامة للإنجليزية وثقافته العالية، إضافة إلى كونه يقوم بدور حلقة الوصل بين المدير الإنجليزي وباقي الموظفين المصريين، والذين لم يكن معظمهم يجيد الإنجليزية بالقدر الكافي لفهم نصف كلام المدير. تزوج جدي من إحدى قريباته كعادة أهل ذلك العصر وأنجب والدي، لم ينجب سواه، وبعد فترة قصيرة ابتاع قطعة الأرض هذه وبنى عليها الفيلا، كانت هذه منطقة مخصصة لبناء الفيلات ذات الحدائق الصغيرة ولم يكن يُسمح بزيادة ارتفاع المباني فيها عن طابقين، أعتقد أن إدارة المتحف قد ساعدت موظفيها على امتلاك الأراضي في هذه المنطقة، وإن كنت لست متأكدا من هذه النقطة. بنى جدي الفيلا وانتقل إليها مع زوجته وابنه، بعدها بوقت قصير تقاعد جدي ليبدأ الجزء السعيد من حياته بعد ذلك؛ كان يقضي وقته ما بين الجلوس في الشرفة في الطابق الأرضي يراقب الشارع الهادئ، وممارسة الزراعة في الحديقة الخلفية، نعم هذا الفناء الخلفي الخرب الممتلئ بالكراكيب والذي يحتوي على هيكل سيارة محترق وتعبث فيه الخنافس وعائلات من حيوان العرسة، كان حديقة غنّاء تمتلئ بأزهار البانسيه والباتونيا، وتعريشة عنب تقطف منها جدتي ورق العنب لعمل المحشي على مدار العام، وفي المنطقة المتاخمة للسور كان جدي يزرع النعناع الأخضر والبصل والفجل والبقدونس والكرّات. توفي جدي بعد سنوات قليلة، ولحقت به جدتي بعده بعامين، وتزوج أبي في الفيلا التي آلت ملكيتها إليه، وأنجب ولدين، أخي الأكبر الذي يكبرني بأربعة أعوام، وأنا.
***
أما أبي فكان موظفا حكوميا في أحد إدارات مجمع التحرير الضخم، وقد تعيّن أبي في الزمن الذي كانت فيه الحكومة مسئولة عن توظيف الخريجين، عن طريق خطابات التعيين الصفراء التي كان الخريج يقبع في انتظارها إلى أن تصل. لم نكن فقراء، ولم نكن أغنياء، كما لم تكن حالنا أفضل ولا أسوأ من غيرنا، كانت حياتنا بسيطة، وكانت الفيلا قد بدأت تتدهور بسبب انعدام الصيانة والتجديد، ولم يكن هناك فائض مالي لإجراء أي تجديدات، إلا أن أبي كان يدّخر جاهدا لشراء سيارة صغيرة كانت تمثّل حلمه الخاص، كان ذلك هو العصر الذي بدأ فيه عامة الناس في امتلاك السيارات الصغيرة المصنعة محليا. استمر أبي في الادّخار واشترى السيارة بالفعل، كان ذلك في الوقت الذي انتبهت فيه للمرة الأولى إلى الحجر.
***
كان الحجر دوما هناك.. في بهو استقبال الفيلا يوجد حجر ضخم يبرز من الأرض ويقبع في وسط المكان، يعلو عن الأرض بنحو متر ونصف، غير منتظم الشكل، يميل بزاوية 45 على الأرض مما يجعله غير قابل للاستخدام كطاولة؛ شكله قبيح ومنفّر ولا يتناسب مع الفيلا، لكنني لم أنتبه إلى وجوده إلا عندما بلغت، كان دوما هناك كشيء عادي وكحقيقة من حقائق الحياة، الأثاث موزع حوله بينما يقبع هو في المنتصف، عندما كنت صغيرا كنت أصعد عليه وأقفز إلى الأرض، أو أصعد وأتزحلق على سطحه المائل الأملس، لكن في ذلك اليوم فقط نبَض وريد في جبهتي وبزغ تساؤل في رأسي: لماذا يقبع هذا الحجر هنا؟ كنت قد عدت لتوّي من بيت أحد أصدقائي، ظللنا نلعب في بيته لعدة ساعات إلى أن تعبنا، وعندما عدت ودلفت إلى الفيلا انتبهت إلى الحجر، اكتشفت للمرة الأولى أن بيوت الناس لا توجد بها أحجار كهذه، وأن وضعنا نحن هو المتفرّد والمختلف. أخذت أتأمل الحجر فوجدت أن سطحه يحتوي على ما يشبه آثار نقوش ممسوحة، نقوش باهتة جدا وغير واضحة، شيء غريب؛ لأول مرة أنتبه إلى هذه التفاصيل، لماذا نحتفظ بشيء كهذا في بيتنا؟ هل له أهمية خاصة؟ ظل هذا الموضوع يؤرق بالي؛ انتظرت حتى عاد أبي من الخارج وألقيت عليه السؤال: "لماذا يا أبي نحتفظ بهذا الحجر الكبير في بهو الفيلا؟"، تأمّلني أبي قليلا، وقد بدا عليه أنه لاحظ لأول مرة أنني كبرت، سألني ساخرا عما إذا كنت قد أرى الحجر اليوم للمرة الأولى، شعرت بالخجل، وبأن هذا السؤال قد تأخّر كثيرا جدا، قال لي وهو يدلف إلى السرير أن أتركه الآن لأنه مرهق على أن نتحدث غدا؛ بتّ في تلك الليلة أفكر في الحجر وفي السرّ الذي سيخبرني به أبي غدا. لكن لم يُتح لي أن أسأله في اليوم التالي ولا في أي يوم آخر، ففي الصباح التالي انقلبت السيارة بأبي واحترقت وهو بداخلها. يُتبع