من السهل على من شاهد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وهو يدلي بشهادته أمام لجنة التحقيق الخاصة بحرب العراق، الجمعة الماضية أن يستشف أنه يكذب أو على الأقل يراوغ بشان حقيقة الأسباب التي دفعته أن يُدخل بلاده حربا كان يعتقد أنها سهلة وأنها ستصنع له مجدا من نوع خاص، وسيدرك المشاهد حقيقة أخرى أنه -أي بلير- كم كان يشبه صدَّاما وهو يقف أمام قاضٍ ليدلي بشهادته عن سنوات من قهر العراق، مع فارق واحد بسيط أن بلير لن تنتهي محاكمته بشنقه إلا إذا تغيرت خريطة العالم... رجال الشرطة والاستخبارات سبقت بلير إلى قاعة التحقيق لتكن البداية مع تلك الكثافة الأمنية التي أحاطت بمركز الملكة إليزابيث الثانية للمؤتمرات في لندن الجمعة الماضية حيث استُدعي رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير للإدلاء بشهادته عن حرب العراق أمام لجنة يرأسها السير جون تشيلكوت وهي لجنة مستقلة من خمسة خبراء شكلتها الحكومة للتحقيق في الفترة من العام 2001 حتى العام 2009 والتي تبحث في مشاركة بريطانيا في حرب العراق، فقد رأى جهاز الاستخبارات البريطانية أن مجرد مثول بلير أمام اللجنة يتطلب استعدادات أمنية قصوى، فانتشر مئات من رجال الشرطة البريطانية وعناصر مكافحة الشغب حول مركز المؤتمرات. كما منعت الشرطة ناشطين مناهضين للحرب من المركز، ونصبت حواجز على الطرقات، وأقامت مناطق محظورة على المارة, كما عززت من الإجراءات الأمنية حول منزل بلير، في الوقت الذي حمل الناشطون لافتات تصف بلير بأنه مجرم حرب وتدعو لمحاكمته. بلير "المضطرب" دخل من باب خلفي خوفا من هتافات المتظاهرين وعلى الرغم من مثول عدد من المسئولين البريطانيين من حكومة بلير أمام اللجنة خلال الأسابيع الماضية إلا أن الاهتمام انصبّ كلية على تلك الساعات الست التي استغرقها التحقيق معه، فتناقلت وكالات الأنباء العالمية تصريحات بلير بشأن الحرب لدرجة أن هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" استُدعيت للقاء، وخصصت شبكة "سكاي نيوز" لنقل جلسة التحقيق، فيما تظاهر الآلاف من الناقمين على سياسة بلير خارج قاعة اللجنة، ونقلت أيضا تظاهر بعض عائلات الجنود البريطانيين الذين قُتلوا في العراق وعددهم 179 جنديا، وخاصة عندما هتفوا: "اخرج من هنا يا بلير لنضربك بالحذاء". وعلى الرغم من أن بلير بدا مضطربا كما وصفته صحيفة "ميل أون صانداي" قبيل التحقيق الذي حضره قبل ساعتين من الموعد المقرر، وبعد أن أمضى أسابيع منكبّاً على مراجعة ملفاته بشأن العراق في محاولة للتأكد من عدم تعثره أمام لجنة التحقيق لدى الإدلاء بإفادته، وقام بقراءة وإعادة مراجعة مئات المذكرات والتقارير، وكذلك الرسائل السرية التي كتبها إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قبل سنة من الحرب، وتعهد فيها بالوقوف إلى جانب الولاياتالمتحدة إذا ما قررت غزو العراق. إلا أن بلير بدا رغم ذلك مراوغا منذ أن بدأ شهادته بتصريح قال فيه: "حتى 11 سبتمبر كنا نظن أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خَطَر, لكننا كنا نعتقد أن الأمر يستحق محاولة احتوائه, غير أن حسابات المخاطرة تغيرت كثيرا بعد 11 سبتمبر". صدام "الوحش" وراء إرسال 40 ألف جندي بريطاني إلى الجحيم كما دافع عن قراره بخوض الحرب منطلقا من التحديات التي نشأت عقب أحداث سبتمبر, قائلا إن تلك الأحداث غيرت من رؤية بلاده والأميركيين بشأن التحديات المشتركة. وأوضح أن تقييمه لتلك المخاطر أنه لم يكن ممكنا أن يسمح لما سماه بالدول المارقة أن تطوّر أسلحة دمار شامل. وعلى الرغم من تصريحات سابقة لبيتر جولد سميث المستشار القضائي السابق لبلير أن رئيس الوزراء السابق كان مؤمنا بعدم شرعية الحرب على العراق، وأنه كان متمسكا بالحصول على قرار ثانٍ من مجلس الأمن, لكنه غيّر رأيه قبل شهر من بدء الحرب. فوجد -أي بلير- أن صدام الذي وصفه "بالوحش" جعله يؤمن حتى اليوم أن قرار دعم الولاياتالمتحدة من خلال الدفع ب40 ألف جندي بريطاني للغزو كان هو القرار الصحيح، وقال إنه كان متفقا "تماما" مع الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش في القضية. كما أخبر أعضاء لجنة التحقيق الخمسة "إذا كنت تعتقد أنك على صواب.. فينبغي عليك الاستعداد التام للعب دورك كاملا". فما كان من لجنة التحقيق إلا أن طرحت عليه تساؤلا بشأن مدى إمكانية اللجوء إلى استخدام العقوبات الذكية على النظام العراقي قبل اللجوء إلى خيار الحرب، رد بلير أن الدول المؤيدة للحرب فشلت في الحصول على دعم لخيار العقوبات الذكية. وأضاف أن الروس لم يدعموا القرار 1409 في العام 2002 بشأن العقوبات على العراق، وهو ما أضعف خيار اللجوء إلى استخدام سلاح العقوبات. لو عاد بي الزمن سأغزو العراق من جديد ورداً على سؤال بشأن اللجوء إلى خيار الحرب وآثاره على العراقيين والدول المجاورة، قال بلير إن خيار الحرب كان مطروحا على الطاولة لمنع نظام (الرئيس الراحل) صدام حسين من تطوير أسلحة دمار شامل. واعتبر أن التحديات الأمنية التي تنشأ في أي مكان في العالم تؤثّر بشكل مباشر أو غير مباشر في الأمن الإقليمي والعالمي، لافتا إلى أن مواجهة هذه المخاطر سواء في أفغانستان أو العراق كان تحديا كبيرا لا بد من مواجهته. واعترف بلير بأن لندن كانت تعرف أنه لا صلة بين صدام حسين وتنظيم "القاعدة"، لكنه لفت إلى أنه كان "واثقاً تماماً" بأن الغرب كان سيتحمّل التبعات لو أتيح لصدام حسين مواصلة برنامج أسلحة الدمار الشامل، ولذلك قال: "لو عاد بي الزمن سأغزو العراق من جديد". وعلى الرغم من أن الجلسة لم تكن للاعتراف بالذنب والاعتذار، ولن تؤدي بأي حال لمحاكمة تنتهي لإصدار حكم ما، إلا أن المتظاهرين في خارج القاعة كانوا قد أصدروا حكما على بلير بوصف مجرم حرب، فعبّر أحدهم قائلا: "السؤال الحقيقي الذي يحتاج توني بلير للإجابة عنه في النهاية سيكون في لاهاي وأمام محكمة جرائم حرب. إنه ممثل بارع لكنني أعتقد أن معظم الناس يفهمون السيناريو منذ وقت طويل". الجارديان تسخر من بلير... والإندبندنت تتهمه وينقلنا هذا إلى انتقادات صحيفة الجارديان اللندنية في اليوم التالي لمثول بلير قائلة إن الحقائق أصبحت أكاذيب كما أنها تحولت إلى اعتقادات، وأصبحت الأحكام أدلة، وصار الفشل والنجاح على حد سواء في نفس المسار. فسخرت الصحيفة من مجريات التحقيق قائلة: على هذا الكوكب الغريب اعتبر غزو العراق أمرا غير كارثي، ولكن ضروري، بل إنه عمل بطولي! وأضافت أن مثول بلير أمام لجنة التحقيق حول غزو العراق أمر رائع ليس لأنه كشف عن وقائع بل لأنه أعطى فكرة مثيرة للقلق عما يكمن في عقل بلير، فقد توقع الكثيرون أن يعرب عن أسفه أمام أقارب وعائلات الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم في الحرب، ولكن على النقيض فقد اكتفى بلير بالاعتراف بالمسئولية واقترح على الجيش أن يشعر بالفخر والإنجاز بدلا عن ذلك. كما رأت الجارديان أن هذا الاسلوب من التفكير تقشعر له الأبدان، ولهذا السبب ذهبت بريطانيا للحرب مع أمريكا في العراق. ولفتت الصحيفة إلى أن بلير قام بأداء متميز وماهر رغم أنه كان أكثر عصبية وأقل طلاقة من أيام كان في السلطة. أما في صحيفة "ذي إندبندنت" فقد كتب المعلق أدريان هاملتون أن شن الحرب على العراق كان دوما مشروعا من مشاريع بلير، ولكن مساءلته أمام لجنة تشيلكوت يجب ألا تبعد النظر عن أن شن الحرب كان في حد ذاته خطأ و"واقع الأمر هو أن بلير وجوردون براون ذهبا إلى الحرب لأنهم حسبا أنها ستكون سهلة". ومن المتوقع أن يخسر بلير الكثير من جراء مثوله أمام لجنة العراق، ليس طبعا لأنها تهدده بقضاء سنوات خلف قضبان السجن كمجرم حرب ولكن من ناحية أن لعنة الحرب تلاحقه كما فعلت مع كل من خاض حرباً غير حربه منذ مئات السنوات، ومن ناحية أخرى سيؤثر على تركته الشخصية كما يحتمل أن يضر ذلك بحكومة حزب العمال التي يقودها خلفه براون الذي كان وزيرا للمالية إبان الحرب. وعليه فيكفي للعرب بشكل عام والعراقيين بشكل خاص أن يُستدعى بلير ليقف أمام العالم ليعلن ولو ضمنيا أنه كان مجرد تابع لبوش، ينفذ أوامره ويتجاهل كل الآراء التي اعتبرت أن خوض حرب ضد العراق حتى في وجود صدام غير قانوني، وأن الادلة التي يستند عليها كلاهما باطلة تماما.. ويكفي أيضا أن يصوره أبناء بلده كمصاص دماء وقع على قرار الحرب بدماء 179 بريطانيا وقف ذووهم خارج قاعة التحقيق ليتوعدوه بضربه بحذاء، ويصفونه بمجرم حرب ويجردونه من كل صفات البطولة التي ما زال يدعيها، ليتساوى مع صدام حسين في نهاية الأمر؛ فكلاهما ادّعى البطولة وتمنى المجد وكلاهما وقف في النهاية أمام لجنة محكمة توجه له الاتهامات، ولكن مع فارق أن صدام شهد الجميع نهايته المأساوية في عيد الأضحى، أما بلير فعلينا أن نترقب نهايته بمأساة مشابهة...