بعدما أبلغ الرئيس محمد أنور السادات يوم 25 يناير عام 1980 الأممالمتحدة رسمياً وباسم مصر إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، بدأت مصر وإسرائيل في اليوم التالي 26 يناير مِن نفس العام في إقامة علاقات طبيعية وودية ودبلوماسية بينهما وإنهاء المقاطعة الاقتصادية، وإلغاء القيود على حرية حركة الأفراد والبضائع بين البلدين، نتيجة لما تنصّ عليه معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية التي وقّعتها مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، والتي بتوقيعها اعترفت مصر كدولة عربية -لأول مرة- بإسرائيل وتبعتها الأردن التي وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل في العام 1994، كما اعترفت بها ضمنا سوريا التي أجرت معها مفاوضات مباشرة من أجل تسوية سلمية بعد مؤتمر مدريد عام 1991، حيث مثلت هذه المعاهدة انقلابا في استراتيجيات مصر وفي الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط. وأدت هذه المعاهدة التي تنصّ أحد بنودها على اتفاق مصر وإسرائيل على أن العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الاعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، وإنهاء المقاطعة الاقتصادية إلى ربط البلدان باتفاق لتصدير كميات كبيرة من الغاز المصري إلى إسرائيل، كما تم توقيع اتفاقية ال"كويز" التي تستورد بموجبها مصر من إسرائيل مكونات تدخل في صناعة النسيج الذي يتم إعادة تصديره بعد ذلك إلى الولاياتالمتحدة من دون جمارك، ويذكر أن حجم المبادلات التجارية بين مصر وإسرائيل بلغ 271 مليون دولار في العام 2008. وكان رد فعل غالبية المصريين -بمقاطعة التطبيع- منطقيا ومتوقعا، ففضلا عما مارسته وتمارسه إسرائيل منذ توقيع المعاهدة من عنف حيال الفلسطينيين, بحيث أصبح ذلك الصراع سمة أساسية في حياتهم, تمتد آثاره إلى ما هو أبعد كثيراً من الزعماء السياسيين وصنّاع الرأي العام لتصل إلى أعماق المجتمع، ورغم مقاطعة العالم العربي لمصر قرابة عشر سنوات بعد توقيعها معاهدة السلام إلا أن مصر ظلت ولا تزال تقوم بدورها الفاعل في حل القضايا والنزاعات في المنطقة العربية. ولذلك فقد قررت مؤسسات المجتمع المدني في مصر مقاطعة إسرائيل دون أن يكون في ذلك أي إخلال بالتزامات الحكومة المصرية باتفاقيات السلام المبرمة, ولقد شهدنا ونشهد قمة ذلك التطبيع الحكومي الرسمي في مراسم تبادل تقديم السفراء لأوراقهم في القاهرة وتل أبيب, كما شهدنا ونشهد في نفس الوقت الاحتجاجات الجماهيرية على كل ما يحمل شبهة التطبيع. في الواقع نجد أن أغلب القطاعات الحكومية تمارس التطبيع والبعض الآخر يمارس المقاطعة, فنجد أن وزارات السياحة والخارجية والزراعة والبترول لا تجد بأسا في التطبيع, في حين أن وزارات الثقافة والتعليم والإعلام تصرّ على المقاطعة، وإذا كان الطلاب المصريون يطلعون ضمن ما يدرسونه عن تاريخ مصر الحديث على معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، إلا أن إسرائيل ليس لها ذكر في كتب الأطلس التي تباع في المكتبات المصرية، والتي ما تزال تحمل على الخرائط اسم فلسطين، وباسم رفض "التطبيع" مع إسرائيل لا تباع كتب إسرائيلية في المكتبات، ولا تعرض أفلام سينمائية إسرائيلية في مصر. لكن ظهر التطبيع الثقافي بشكل كبير عندما تناولت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، عبر موقعها الإلكتروني تفاصيل عمل المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة والذي افتتح عمله في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في إطار اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر. وقالت الصحيفة إن الهدف الرئيسي من إنشاء المركز هو تطوير العلاقات الثقافية والأكاديمية بين مصر وإسرائيل. وأشارت إلى أنه كان من المفترض أن تقيم مصر مركزا مماثلا في إسرائيل إلا أنها لم تفعل رغم التزامها بذلك في اتفاقية السلام. واعتبرت الصحيفة أن هذا المركز هو من بين آخر قلاع التطبيع مع مصر، إلى جانب شواطئ سيناء. وقالت الصحيفة إن هناك مكتبة ضخمة باللغة العبرية في المركز، زاعمة أن الطلب على الكتب فيها يتزايد مع مرور السنوات، خاصة من قِبل الطلاب والباحثين من دارسي اللغة العبرية في جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات. وبحسب الصحيفة فإن ما يقارب 5 آلاف طالب مصري يدرسون اللغة العبرية سنويا في جامعات القاهرة الكبرى. وأضافت أن بعضهم ينوي استخدام اللغة في نهاية التعليم في إطار العمل في وسائل الإعلام والترجمة أو الانضمام إلى المخابرات المصرية. وفي ظل هذا المناخ تدفق الآلاف من السياح الإسرائيليين إلى مصر, وحصل الآلاف من المصريين على تأشيرات سفر رسمية للعمل في إسرائيل, وانغمس الآلاف من العاملين في المنتجعات والمؤسسات السياحية في التعامل مع الإسرائيليين, وفي ظل هذا المناخ أحجمت وزارة الثقافة عن أن يكون لها مركز ثقافي مصري في إسرائيل يمارس ما يمارسه المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة. خلاصة القول، نحن نعيش حالة من التخبط وعدم المعرفة تجاه قضية التطبيع مع إسرائيل، فنحن لا نعرف ما الهدف من المقاطعة ورفض التطبيع؟ هل هو لدفع إسرائيل للانسحاب من الأراضي المحتلة؟ أم لمجرد إحساسنا بالكراهية -غير المبررة- عند التعامل مع العدو؟ وهل يصح لنا أن نتجاهل العدو الذي أصبح يعرف عنا الكثير في ظل مقاطعتنا له، ونحن لا نعرف عنه شيئا على الرغم من تغلغله وانغماسه داخل مجتمعنا؟!