نقلا عن الاهرام6/12/07 لم تكن كلمة التطبيع من الكلمات المألوفة في القاموس السياسي العربي قبل أن تعقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام1979, فلم يكن أحد قبلها يعتبر أن اتفاقات الهدنة أو وقف إطلاق النار أو حتي ترتيبات الأمن المتبادلة تمثل عملا تعاونيا. وحتي تلك الاتصالات السرية والصفقات الخاصة التي كانت تجري بين بعض الحكومات العربية وإسرائيل, فإنها بدت كجزء من الألعاب البراجماتية التي تشكل جزءا لا يمكن تجنبه في الصراعات الإقليمية. فكلمة التطبيع ظهرت مع مفهوم السلام وتحولت بعد ذلك إلي تعبير شديد التعقيد. لقد استندت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إلي المفهوم المعتاد للسلام بين الدول. الذي يعني إنهاء حالة الحرب من ناحية وإقامة علاقات تعاونية من ناحية أخري, استنادا علي نظرية معروفة مفادها أن السلام بين الدول لا يتحقق فقط بوجود علاقات رسمية بين الحكومات وإنما بوجود علاقات طبيعية بين الشعوب, لكن سرعان ما ظهر أن هذا المفهوم كان شديد الطموح, فقد ظلت المشكلات العربية الإسرائيلية الأخري تلقي بتأثيراتها علي علاقات الطرفين وظهر أن الحاجز النفسي الذي كان الرئيس السادات يأمل في إزالته, يقع خارج السيطرة الرسمية. كان من الواضح أن ما تحقق في تلك الفترة هو تسوية وليس سلاما, فعلي الرغم من أن العلاقات المصرية الإسرائيلية قد شهدت مستوي من التعاون, إلا أن هذا المستوي لم يكن كافيا لإنهاء صفة السلام البارد التي اتسمت بها لفترة طويلة, فقد كانت القدرة علي تحريك البيروقراطيات الحكومية للتفاعل المتبادل الذي يتجاوز حدا معينا صعبة, وكانت القدرة علي تحريك الشعوب للتفاعل, دون رغبة طوعية منها, مستحيلة وكانت الاعتداءات الإسرائيلية والتفاعلات العنيفة المتواصلة علي ساحتي لبنان والفلسطينيين تسمم الأجواء حتي إنها أثرت بشدة علي العلاقات الرسمية ذاتها. كانت كلمة التطبيع تتخذ معاني سيئة مع الوقت لدي الرأي العام, فقد تشكلت مجموعات لمقاومة التطبيع, وأصبحت لجماعات داخلية كثيرة لوائحها الخاصة بعدم التعاون. وأصبح الاتهام بالتطبيع أحد الاتهامات الحساسة التي يواجهها من يتجاوز التفاعلات الضرورية, أشخاصا أو جماعات أو حتي وزارات, وخضعت الحكومات لضغوط الواقع, حتي لا تتأثر شرعيتها ووقتها سادت نظرية تقرر أن التطبيع يعني في الواقع إقامة علاقات عادية بين الدول, علي غرار العلاقات القائمة بين أي دولتين في العالم, فهو لا يعني بالضرورة علاقات خاصة والمهم أن تكون العلاقات مستقرة. عندما بدأت عملية التسوية الإقليمية للصراع العربي الإسرائيلي في مدريد عام1991, وجلست كل الأطراف معا في قاعة واحدة, بدأ الرأي العام العربي يميز بواقعية أكبر بين ما تقوم به الحكومات وما تقوم به الشعوب. لكنه كانت لا تزال هناك حساسية تجاه ما يعتبر سلوكيات زائدة كالمصافحات والمجاملات, وتفجرت في أوقات تالية جدالات شهيرة حول مثل تلك القصص القصيرة, لكن الشعوب تركت الحكومات عموما لحال سبيلها. في منتصف التسعينيات, شهد مفهوم التطبيع تقلصات شديدة الحدة, دفعت في اتجاهات مربكة, أهمها اتجاهان: الأول: أن بعض الدول العربية قد اندفعت بشدة في اتجاه تعميق التعاون مع إسرائيل, وإجراء اتصالات ولقاءات معلنة مع المسئولين الإسرائيليين, وهو ما عرف وقتها باسم الهرولة, ليبدأ البعد الخاص بالتعاون في العودة إلي مفهوم التطبيع, ولم يكن ذلك بعيدا عن مناخ الثقة الرسمية المتبادلة في عهد حكومة رابين في إسرائيل. الثاني: ظهور تيار في إسرائيل يتبني مبدأ الأرض مقابل السلام, علي نحو أدي إلي إعادة التفكير فيما إذا كانت إسرائيل تعتقد فعليا أن العلاقات التعاونية تمثل أهمية أم أنه إذا بدا أن الأمن يتعارض مع السلام, فإن الأولويات محسومة, وظهر تيار في إسرائيل ذاتها يري أن إسرائيل تنتمي إلي العالم الغربي وليس إلي المنطقة. كانت هذه هي المرة الأولي التي تطرح خلالها سؤالا مثيرا حول ما إذا كانت المعادلة العرفية السائدة التي تقرر أن إسرائيل ترغب في التطبيع, والعرب لا يرغبون في ذلك, هي معادلة حقيقية, أم أن إسرائيل ربما لا ترغب في حقيقة الأمر في قيام علاقات قوية. وأن القضية ربما تحمل ملامح ابتزاز سياسي, وهنا ساد تفسير لكتاب شيمون بيريز الشرق الأوسط الجديد علي أنه يعكس ميلا للهيمنة وليس التعاون. كانت هناك جدالات حادة في تلك الفترة حول العلاقة بين حل المشكلات وتطبيع العلاقات في معظم لجان المفاوضات متعددة الأطراف فالدول العربية تري أن المشكلات يجب أن تسوي أولا, وإسرائيل تري أن الأمور لا تسير بتلك الصورة, لكن من الناحية العملية كان انعقاد المؤتمرات المتتالية للتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يشير إلي أن الجانبين قد توافقا عموما علي مبدأ التوازي بين المستويين, طالما أن ثمة أملا في التسوية السلمية. بالطبع كانت هناك تباينات طوال الوقت بين الدول, فقد كانت عدة دول في الخليج وشمال إفريقيا تسير في اتجاه بينما تسير دول كسوريا ولبنان في اتجاه آخر, أما بالنسبة للأطراف التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل فإن أحدا لم يكن يجهد نفسه في إعادة تعريف التطبيع إذ كان الواقع يدفع العلاقات في اتجاه تفاعلات تتسع وتتقلص وفقا للأحوال دون حاجة إلي تعريف التطبيع عادت مشكلة التعريف مرة أخري, عندما بدأت المفاوضات السورية الإسرائيلية تقترب مما يبدو أنه اتفاق نهائي عام2000 فقد تم التوافق علي أن التطبيع يعني علاقات سلم عادية وأصبح البعد الخاص بالتعاون جزءا من الصفقة الثنائية, ف وفقا لسوريا كان مدي الانسحاب يرتبط بمدي التطبيع, ولم يحدث انسحاب أو تطبيع. بدأت الأمور تتجاوز التعريفات تماما مع انهيار عملية التسوية عام2000, وعودة العنف واسع النطاق, وصولا إلي عام2006 إذ كانت كل التفاعلات قائمة في الوقت نفسه ففلسطينيا لم يعد أحد يسأل عما يعنيه التطبيع, وبينما لا تزال جماعات مقاومة التطبيع تعمل بدأب فإن تفاعلات قطاعات معينة أخري تصل إلي مدي واسع يتعلق بحسابات متداخلة, لا يفضل كثيرون الحديث عنها في المنطقة العربية. كانت الحلقة الأخيرة المرتبطة بمسألة التطبيع تعكس هذه الاتجاهات المتضاربة, فهناك مبادرة سلام عربية رسمية تعتمد علي صيغة إقامة علاقات تعاونية مع إسرائيل مقابل حل المشكلات المعلقة علي مسارات الصراع, وفي المقابل هناك عودة لمفاهيم ما قبل التسوية مثل الهدنة طويلة المدي كأساس لالتعايش من جانب حركة حماس. بين هذا وذاك يقوم مواطنون هاربون من جحيم الحرب في السودان, وغيرهم, بمحاولة اللجوء عبر الحدود المصرية إلي إسرائيل, غير عابئين بالكيفية التي يفكر بها الآخرون في المفاهيم. إجمالا فإن المفهوم السائد للتطبيع حاليا هو العلاقات العادية, التي يمكن أن تتطور إلي تعاون عام إذا تمت تسوية المشكلات العربية الإسرائيلية المعلقة, التي تتوتر لدرجة كبيرة عندما تتصاعد الصدامات العنيفة بين أطراف الصراع. إنه مفهوم مدرسي لتسيير الأمور إلي أن تتضح نهاية الطريق. المزيد من الأقلام والآراء