خلينا نحسبها: الجماعة الإسلامية وبعض التيارات الإسلامية، تعارض أي دستور مدني، وتصر على الحكم بالشريعة الإسلامية وحدها. وفى مجتمع حر، هذا حقهم. ولكن المجتمع الحر لا تفرض فيه الآراء بالقوة والحشد والمليونيات. وهذا يعني أن تلك التيارات لا تؤمن بفكرة المجتمع الحر من الأساس. أو أنها تعطي الانطباع القوي بهذا. ولكن العجيب أن تلك التيارات نفسها قد شاركت من قبل في انتخابات حرة! أي أنها عندما تصوّرت أن مناخ الحرية سيأتي لها بما تريد، شاركت فيه. وعندما لم يأت بما تريد، انقلبت عليه. ولا اعتراض عندي في أن يطالب كل شخص بما يؤمن به. ولكنني أعترض -وبشدة- على محاولة فرضه بالقوة، أو حتى بليّ الذراع. فالدستور، أيا كانت مواده، سيعرض في استفتاء عام، وكل مواطن له كل الحق في قبوله أو رفضه. هذا هو الأسلوب الحر. ومنذ انتخاب الرئيس محمد مرسي، يفترض أن الدولة قد بدأت عهد الشرعية الحقيقية، بوصول مواطن عادي، من خلال انتخابات حرة، إلى مقعد الرياسة. وأيا كان اتفاقنا أو اختلافنا مع أداء مؤسسة الرياسة، فهي لأول مرة في تاريخ مصر مؤسسة فازت بأصوات الشعب، في انتخابات أقرّت الغالبية العظمى بأنها ديمقراطية حرة. وحتما هناك بعض التجاوزات. وربما كثير من الأخطاء. هذا لأن مؤسسة الرياسة الحالية، مؤسسة وليدة، لم تختبر الحكم أبدا، وربما منذ نشأتها. ولهذا فهي تحاول.. وتجتهد.. وتخطئ.. تماما مثل أي وليد.. ومثل أي جديد.. ولكن الأهم، هو أنها قد جاءت من خلال انتخاب شعبي. وعلينا أن نسعد بهذا.. ونقره.. ونحترمه.. فهذا يعني أن مصر تشهد الآن أكبر تغيّر في تاريخها الحديث، وربما منذ اختيار الألباني محمد علي واليا لمصر بإرادة الشعب. ولكن من الواضح أن كلمة "إرادة الشعب" هذه ليس لها مفهوم واضح في عقول ونفوس الكثيرين من أبناء هذا الوطن. فإرادة الشعب الحقيقية هي أن يختار الشعب ما يريده، كيفما يريد ووقتما يريد.. هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.. ولنفسه. أما أن يرى فصيلا ما أيا كان، أن الشعب لا بد أن يسير على منهجه هو، ووفق رؤيته هو، وتحت إرادته هو، فهذا ليس أبدا إرادة شعب.. إنه قهر شعب.. والأخطر أنه وأد لأهم تجربة في تاريخ مصر كله. لقد نهض الشعب، الذي أكدوا لعقود أنه لن ينهض أبدا.. نهض ورفض القهر والاستعباد والديكتاتورية والطغيان.. نهض يطالب بالحرية.. والعدل.. والأمان.. أن يعود كما خلقه الله سبحانه وتعالى، حرا.. وتاريخنا الإسلامي نفسه لم يشهد في أي عهد من عهوده ذلك القتال الوحشي، لفرض الفكر والإرادة والعقيدة. صحيح أن جيوش المسلمين قد فتحت البلاد بالقوة.. ولكنها أبدا لم تفرض عقيدتها بالقوة. كانت تفتح البلاد، وتسقط الحكّام، وتملك مفاتيح كل شيء.. إلا العقيدة.. فإنك أبدا لن تهدي من أحببت، ولكن الله العزيز القدير يهدي من يشاء. كل ما فعله المسلمون الأوائل، هو أن كانوا قدوة حسنة.. يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.. لم نقرأ سطرا واحدا في التاريخ الإسلامي يقول: إنهم أجبروا الناس على السير على منهجهم.. حتى عند فتح مكة، لم يجبروا أحدا على الإسلام، على الرغم من أنهم كانوا يقاتلون كفارا، يعبدون الأصنام وينشرون الظلم والطغيان.. ولكن عدلهم، حتى مع أعدائهم، وسماحتهم، حتى في وجوه خصومهم، كان لها مفعولها.. ودخل الناس في دين الله المعز المذل أفواجا.. دخلوا عن إيمان واقتناع، وليس عن قهر وسلطة وإجبار.. وهذه هي الحرية الحقيقية. ومن يتابع مقالاتي منذ قيام الثورة، سيجد أنني كنت ضد فكرة المليونيات من البداية، وأن هذا ليس وليد اللحظة، وليس لرفض مليونية بعينها. ولكن بقليل من العقل، أشعر بمدى خطورة مليونية عقائدية، في ظل كشف وجود خلايا تخريبية، لم يسقط كل أفرادها بعد، ولم تنكشف كل خططها حتى هذه اللحظة.. فأي حشد جديد أو مليونية جديدة، سيكون فرصة مثالية لتلك الخلايا التي لم تسقط بعد، لتنفذ أهدافها وتستغل الفرصة لتضرب ضربتها. ويمكنني من الآن أن أخبركم بما سيحدث، في تلك المليونية.. ستبدأ سلمية، مكتفية باللافتات والشعارات والهتافات. ولأنه من المستحيل أن تضمن عدم اندساس أي آخرين وسطها، مهما قلت أو فعلت، فسيتسلّل إليها بعض المندسين حتما. ومع الانفعال اللحظي سيبدأون في تسخين الأمور، وتحويل مسار المليونية، حتى ولو نفذوا خلالها عملية تخريبية محدودة. يكفي أن تنطلق رصاصة وسط الزحام، أو يسقط قتيل واحد، حتى تشتعل الأمور.. وعندئذ لن تصبح المليونية سلمية.. وسيتفجّر الموقف.. فتلك الخلايا، بعد أن انكشف أمرها، لم تعد تملك التراجع، ولم يعد أمامها من سبيل سوى الهجوم، أو تخسر كل شيء. وماذا أفضل من مليونية عقائدية لبلوغ هذه الغاية؟! وعبر خبرة ثلاثة عقود في دراسة نظم الأمن والاستخبارات والخلايا السرية، أتصوّر أن تلك الخلايا ستسعى لاستنساخ ما حدث، في الأيام الأولى للثورة. الهجوم على أقسام الشرطة والسجون، ومحاولة تحرير أفراد الخلايا الذين سقطوا. ولكنهم وفقا لما تم ضبطه من أسلحة خفيفة وثقيلة، وكميات هائلة من المتفجرات بمختلف أنواعها، سيكونون أكثر عنفا وشراسة هذه المرة.. وأكثر دموية.. وهذا أخشى ما أخشاه.. وأكثر ما ينبغي أن نخشاه جميعا.. فالهجوم هذه المرة، وأيضا وفقا لنوعية الأسلحة المضبوطة، لن يقتصر على أقسام الشرطة، وإنما قد يمتد أيضا إلى بعض وحدات الجيش.. وهنا تكمن الخطورة.. وهنا يتوجب علينا التسلح بالعقل والحكمة.. قليل من العقل.. وقليل من الحكمة.. فالأمر هنا لا يتعلق بنوعية المليونية ومطالبها، ولكن بتوقيتها. عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف عقوبة قطع اليد في زمن المجاعة، فما المشكلة لو تأجلت مليونية ما في زمن الخطر؟! قليل من العقل يا أولي الألباب.. وقليل من الحكمة، لكل قوم يتفكرون.. مصرنا تواجه الآن خطرا كبيرا، فلماذا السعي إلى مضاعفته؟! الحديث لقوم يعقلون.. فهل يعقلون؟!