إرهاق شديد أشعر به في هذه الأيام.. إرهاق جسدي.. ونفسي.. وعصبي.. ومعنوي أيضا.. فمنذ اندلعت الثورة، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ونحن في حالة توتر.. توتر شديد.. عنيف.. ومستمر.. الكل بات يتصوّر أنها ليست ثورة، وإنما هي عصا سحرية قادرة على حل كل المشكلات، وتجاوز كل العقبات، وتصفية كل المتاعب!! والهجوم الشرس، صار سمة الحوار.. أي حوار.. لو اختلفت في الرأي مع شخص ما، انهال عليك بالسباب والشتائم والتحقير والعبارات البذيئة أحيانا.. والأسوأ، أنه يعتبر أن هذه هي الحرية !! أية حرية تلك التي لا تقبل الرأي الآخر؟! وأية حرية تلك التي تُبنى على التجاوزات؟! الحرية كلمة موازية للمسئولية.. والحرية ليست حريتك وحدك.. وليست رأيك وحدك.. وليست فِكرك وحدك.. وليست حتى عقيدتك وحدها.. فلو شاء الله سبحانه وتعالى لجعلنا كلنا مؤمنين.. ولو شاء عز وجل لخلقنا جميعا على رأي واحد.. وفكر واحد.. وعقيدة واحدة.. ولكن الواحد القهار لم يفعل.. فلماذا؟! هل سألت نفسك يوما لماذا؟! هل حسبتها؟! الله عز وجل أراد لنا أن نكون مختلفين.. وفي كل شيء.. خلق الأصحّاء.. وخلق المرضى.. خلق المؤمن.. وخلق الكافر.. خلق الذكي.. وخلق حتى الغبي.. خلق من يعطي.. ومن يأخذ.. خلقنا مختلفين جل جلاله؛ لأن في اختلافنا سنة الحياة.. نختلف لنحيا.. ولنتطوّر.. ولنتقدّم.. خلق المريض؛ ليدرك الصحيح ما حلّ به من نعمة.. وخلق العاجز ليصبح عبرة للقادر.. وخلق حتى مَن يكفر به حتى يشعر المؤمن بإيمانه.. ثم طالبنا العزيز الجبار بأن نتكامل.. ونتكاتف.. ونعمّر الأرض.. ونطوّرها.. ونعلو بها وببني جنسنا.. ولهذا فالاختلاف ليس مجرد حقيقة.. إنه ضرورة.. ضرورة لكي يعمر الكون.. ولكي نفهم.. وندرك.. ونتعلّم.. ونكبر.. ونتطور.. ولقد خلقنا عظمت نعمه أحرارا.. أحرار فيما نفكّر.. وفيما نتدبر.. وحتى فيما نعتنق.. بل إنه العزيز الغفور، جعل من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. وهو وحده ذو الجلال والإكرام، يحاسبنا فيما بعد.. يجازينا فيما فعلنا ونفعل.. يعطي من عمل مثقال ذرة خيرا يره.. ومن عمل مثقال ذرة شرا يره.. ولأن عقولنا قاصرة عن فهم حكمته وعظمته، لم يمنح أحدنا فرض فكره على الآخرين، وجعلنا على العباد مذكرين، ولسنا عليهم بمسيطرين.. ولكنه الإنسان بغروره وتعاليه.. خلقه رب العرش العظيم من نطفة، فإذا هو خصيم مبين.. وإذا به يمنح نفسه ما ليس حقا له!! وعلى الرغم من أن الله واهب الخير والنعم، حذّرنا من أنه لا إكراه في الدين، فما زال بعضنا يرى أنه أعلم من خالقه العزيز الجبار، وأكثر غيره على دينه منه.. والإنسان الفاني الذي مهما طال به الزمن فمآله إلى تراب، يتصوّر أنه يفهم في الدنيا والدين، أكثر من الحي الذي لا يموت.. ولهذا فكل خلاف صار اختلافا.. وكل رأي صار جريمة.. وكل فكر صار بداية لمعركة.. وحتى المعركة لا تدار بما أمر به الله جل جلاله.. حتى الدعوة إلى دينه عز وجل لم يعد بالحكمة والموعظة الحسنة.. أفلا يجعلني هذا ويجعل العديدين يشعرون بالإرهاق.. أي إنسان في الكون كله، لا يمكنه أن يحارب طوال الوقت.. حتى الجنود في ساحة القتال يحتاجون إلى الراحة.. وفي قلب أشرس المعارك.. كل قائد حربي يُدرك هذه الحقيقة.. مهما كانت خطورة وكان عنف القتال، لا بد وأن يستريح الجنود.. ولو بالتناوب.. إن لم يفعلوا تضعف قواهم، وتهن عزائمهم، وتتخاذل إراداتهم.. والحرب لم تتوقف لحظة واحدة، منذ قيام الثورة.. هجوم.. غضب.. مليونيات.. تظاهرات.. اعتصامات.. مطالبات.. احتجاجات.. كلها طاقات سلبية، كانت مختزنة لدى الشعب منذ عقود طويلة، وتفجّرت كلها دفعة واحدة، بحثا عن الخلاص.. ولأنه لا أحد يدرك القواعد الحقيقية للعبة؛ فالكل يتصوّر أنه لو توقّف فسيخسر كل شيء.. وكل دروس الدنيا وعبر التاريخ تقول العكس تماما.. استراحة المحارب، أكثر أهمية من قتاله.. فكل جسد بشري -مهما بلغت قوته- له طاقة.. وإذا ما نفدت الطاقة تراخت روحه.. وإذا ما تراخت روحه تخاذلت إرادته.. وإذا ما تخاذلت إرادته خسر.. قلت هذا من قبل، وأقوله، وسأظلّ أقوله.. ولا أشعر أنه هناك مَن يستمع.. ولهذا أشعر بالإرهاق.. كل الإرهاق،،،