الحديث عن الحرية لا ينقطع ولا ينتهي؛ ليس لأنه حديث بلا نهاية، ولكن لأن الحرية ليست مجرد كلمة نتشدق بها، ونرددها، ثم لا ندرك المحتوى الهائل لها.. فالحرية ليست حريتك وحدك.. ليست أن تكون حراً في قول ما نريد.. واعتناق ما تريد.. وفعل ما تريد.. الحرية ليست أبداً ما تريد.. ولا ما أريد.. وليست حتى ما يريدون.. الحرية أشبه بمساحة كبيرة، مقسمة على عدد من فيها، بحيث يكون كل منهم حراً تماماً في مساحته، يفعل فيها ما يشاء، ويعتنق ما يشاء، ويقول ما يشاء.. ولكن داخل حدود مساحته وحدها.. فإن حاول تجاوزها، فلن يجد أمامه من سبيل، سوى أن يقتحم مساحة شخص آخر.. واعتدى على حرية شخص آخر.. وهنا تنتهي حدود حريته.. الحرية ليست أن تصرخ بما تريد.. وهي حتماً ليست أن تفرض ما تريد.. ولا حتى أن تحاول هذا.. الحرية الحقيقية، لو أنك أردت أن تتمتع بها، ليست هي حريتك وحدك، بل هي حرية كل مَن حولك أيضاً.. حرية من يتفق معك.. وحرية من يختلف معك أيضاً.. الحرية ليست أن تغضب وتحتد على من يخالفك.. ولا على من يخالف فكرك.. أو رأيك.. أو حتى عقيدتك.. ففي كل الدراسات المعروفة، يعد الغضب والحدة والهجوم العنيف، على كل من يخالفك في الرأي، وإنما في أن تدافع في استماتة، عن حقه في التعبير عن رأيه، الذي يخالف رأيك.. وهذا لن يعني أنك قد اقتنعت برأيه.. ولا أنك تتفق معه.. ولكن يعني أنك تؤمن بالحرية.. حريتك.. وحريته.. فالفارق بين الحرية والديكتاتورية شعرة.. وشعرة دقيقة للغاية، على عكس ما تتصور.. ففي الحالتين، يؤمن المرء بحريته، وحقه في التعبير عن رأيه، والدفاع عنه.. وفي الديكتاتورية، يغضب صاحبها ممن يخالفه الرأي.. فيهاجمه.. ويقاتله.. ويسعى لقمعه، لو امتلك الوسيلة لهذا.. أما في الحرية فهو يستمع إليه، ويناطحه الحجة بالحجة، دون غضب أو عنف.. ودون محاولة منعه من التعبير عن رأيه.. وبأية وسيلة كانت.. وعقب الثورة، شعر الناس فجأة بأنهم قد تحرروا.. وما إن شعروا بهذا، حتى انطلقوا يمارسون حريتهم بأقصى طاقتهم.. وبكل اندفاعهم.. وبينما يتصورون هذا، داسوا على كل من يخالفهم الرأي، أو يختلف معهم في الفكر.. وأيضاً بكل اندفاعهم.. وفجأة، بدأت فئة غير قليلة، تستخدم كلمات خارجة، وعبارات غير مهذبة؛ للهجوم على من يخالفهم الرأي.. وهم يتصورون أنهم بهذا أحرار.. وأنهم يمارسون حريتهم.. فماذا لو واجههم من اختلفوا معهم بنفس الكلمات الخارجة، والعبارات غير المهذبة، وهم يتصورون أيضاً أنهم يمارسون حريتهم؟! ماذا؟! ألن يغضبهم هذا ويثيرهم حتماً؟! ألن يكونوا بهذا، قد منحوا أنفسهم الحق في إيذاء مشاعر الآخرين، وحجبوا الحق نفسه عن الآخرين؟! أيكونون بهذا أحراراً؟! إنهم في الواقع يمنحون الآخرين، الذين آذوهم بتجاوزاتهم، ما حرموا أنفسهم منه.. لقد أدخلوا من آذوهم في زمرة المؤمنين بالحرية، ووضعوا أنفسهم في قائمة الديكتاتورية.. الأسوأ أن الزمن يمضي، ونقاط الخلاف تنحسم وتنتهي.. وتبقى التجاوزات.. تبقى مع انطباعات الكل عمن أساء.. وعمن تجاوز.. ثم وبعد عمر طال أم قصر، سيقف الاثنان أمام رب الكون العظيم، المنتقم الجبار.. الذي أساء، والذي أسيء إليه.. ومع هول يوم القيامة، لمن يؤمن به، حينما يكون من عمل مقدار ذرة من خير يره، ومن عمل مقدار ذرة شرا يره، سيتمنى المسيء لو لم يكتب أو ينطق حرفاً واحداً من إساءاته.. فلمن تكون الخسارة إذن؟! ولمن تكون الغلبة؟! والحديث عن حسابات الآخرة لم يعد يجد صدى لدى بعض الشباب، الذين تأخذهم حماستهم، وتلهبهم مشاعرهم، ويرون في الإساءة والتجاوز قوة، لا يملكون تحقيقها على أرض الواقع.. ولكن شاءوا أو أبوا، فالحساب قادم.. وعسير.. والمسيء قد يستتر من البشر، تحت اسم مستعار، على شبكة الإنترنت.. ولكن كيف يستتر من خالقه عز وجل؟! أخبروني كيف؟! ثم ماذا عن الدنيا، التي يؤمن بوجودها الجميع؟! ماذا عن شاب، وجد في الإساءة والتجاوزات قوة، ثم تزوج، وأنجب أبناءً، أساءوا إليه وتجاوزوا معه، بنفس ما تجاوز به مع الآخرين؟! هل سيعتبرها عندئذ بطولة وقوة، أم خروجا عن الأدب؟! وهل سيعتبر تجاوزاتهم ممارسة لحريتهم، أم إساءة لأبويهم؟! الحرية أيها السادة تعني المسئولية، وشعورك بالمسئولية هو الدليل على أنك حر.. فأنت حر.. ما لم تضر.. هذه هي القاعدة البسيطة للحرية.. مارس حريتك.. عبر عن رأيك.. أفصح عن فكرك ومعتقداتك.. ولكن مع إحساس بالمسئولية، وشعور بحتمية أن يعبر من يخالفك أيضاً عن رأيه، ويفصح عن فكره ومعتقداته، ويمارس حريته.. لأنك حر.. ولأنه حر.. ولكي تثبت أنك بالفعل حر، لا تقاتل من أجل نفسك وحدك، ولا في سبيل حريتك وحدها، على حساب حرية الآخرين.. قاتل في سبيل الهدف الأسمى والأكبر.. في سبيل الحرية.. للجميع.. وبلا استثناء..