كلمات ثلاث، تردّدت طويلاً وكثيراً على ألسنة الملايين، في الآونة الأخيرة.. حرية.. ديمقراطية.. عدالة اجتماعية.. ردّدها الملايين، في طول البلاد وعرضها، دون أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً مهماً.. هل يؤمنون بها حقاً في قرارة أنفسهم؟! الملايين خرجوا ينادون بالحرية، ولكن بأية حرية.. حريتهم.. أم الحرية بمضمونها الشامل؟! فلكي نستوعب مفهوم الحرية، وهو مفهوم شديد التعقيد في الواقع، ينبغي أن نطرح على أنفسنا سؤالاً بالغ الأهمية.. هل نحن مستعدون للمطالبة بحرية فئة تختلف معنا تمام الاختلاف، في الفكر والمفهوم والعقيدة؟! فلو أنك غير مستعد لهذا، فأنت لا تؤمن حقاً بالحرية.. أنت فقط تريد حريتك.. وحريتك وحدك، دون سواك.. تريد أن تكون حراً، تعتنق ما تشاء، وتؤمن بما تشاء، وتسير على أي منهج تشاء، دون أن يحظر عليك أحد هذا.. ولكنك، في الوقت ذاته، ترفض أن يعتنق الآخرون ما يشاءون، ويؤمنون بما يشاءون، ويسيرون على أي منهج يريدون، دون أن يحظر عليهم أحد هذا.. باختصار، أنت تريد أن تكون حراً.. وأن تمنع الحرية عن الآخرين.. أي أنك تطالب بالحرية، بأسلوب ديكتاتوري.. وهذا أمر غير صحيح، بل إن أقل ما يوصف به هو أنه أمر مختلّ.. فالحرية أمر لا يمكن تقسيمه، أو تفتيته إلى قطع صغيرة.. إنه كيان هائل كبير.. كيان جعل المسلمين يؤدون الصلاة، والمسيحيون يحمونهم.. كيان جعل قدّاس الأحد يقام، والمسلمون يحمونه.. الحرية هي أن تدافع، وباستماتة، عن حرية شخص يخالفك في كل ما تقتنع به.. حريته في أن يعبّر عن نفسه.. أن يقول رأيه.. أن يرى الأمور من زاويته.. أما الديكتاتورية فهي عكس كل هذا، على طول الخط.. ومشكلة الديكتاتورية أنها نفس بشرية أمّارة بالسوء.. وأن صاحبها لديه -دوماً- ما يبرّر به ديكتاتوريته.. فصاحب النزعة الديكتاتورية يرى دوماً أنه على صواب، على نحو مطلق، وأن من يخالفه على خطأ، وعلى نحو مطلق أيضا.. يرى أنه وحده يرى.. والآخرون لا يرون.. وحده يعرف.. والباقون لا يعرفون.. وهذا الوصف هو أقل ما توصف به الديكتاتورية.. فالديكتاتور الفردي قد يكتفي بهذا الفكر في أعماقه، أو يعبّر عنه بكلمات غاضبة، أو ثائرة، أو حتى حادة.. فماذا لو وضعته في موضع سُلطة؟! كيف سيطوّر فكرة الديكتاتورية حينئذٍ؟! هل سيهاجم مخالفيه؟! أو يعتقلهم؟! أو يعذّبهم؟! أو يتمادى إلى حد قتلهم؟! كل هذا وارد، ومُشاهَد في أمور عديدة من حولنا.. لكي تطالب بالحرية "الحقيقية" عليك أوّلاً أن تؤمن بها.. عليك أن تدرك في أعماقك أنك على صواب يحتمل بعض الخطأ، وأن الآخرين على خطأ يحتمل بعض الصواب.. ومن الضروري أن يكون لديك الاستعداد لسماعهم.. والإنصات إليهم.. ومحاورتهم.. وفهم وجهات نظرهم.. وفي هذه الحالة لا بد وأن تقتنع بأنه من الوارد جداً ألا يمكنك إقناعهم، وألا يمكنهم إقناعك.. وأن تظل الأمور على حالها.. أنت تخالفهم.. وهم يخالفونك.. وفي الحالتين يبقى حقهم في مخالفتك.. وحقك في مخالفتهم.. دون غضب.. أو نقمة.. أو عنف.. أو عناد.. باختصار، عليك أن تؤمن بالمبدأ الأساسي للحرية.. أنت حر، حتى تصل حريتك إلى حدود حرية الآخرين.. هنا تتوقف حدود حريتك.. وتبدأ حدود حريتهم.. والحرية أيضا هي ألا تستخدم الضغوط على مخالفيك.. لا الضغوط المادية.. ولا المعنوية.. الحرية ألا تتهم من يخالفك بأنه خائن، أو عميل، أو جاهل.. أو حتى كافر.. الحرية ألا تهاجمه في عنف عندما يخالفك.. الحرية هي أن تكون هناك حقوق متساوية للجميع.. وبلا استثناء.. أي استثناء.. والحرية لا تمنعك من أن تعترض، بل هي التي تعطيك الحق في هذا، وتعطي من يخالفك الحق في أن يعترض على اعتراضك.. وأن يقبل هو اعتراضك.. وتقبل أنت اعتراضه.. الحرية هي أن تكون من الكاظمين للغيظ.. ومن العافين عن الناس.. والمجتمع -أي مجتمع- لا يمكن أن يستقيم ويستقر إلا بالحرية.. لأن الحرية هي الأساس.. هي البداية للتطوّر.. والتقدّم.. والنمو.. والازدهار.. والتفوّق.. الحرية هي السبيل الأول لنعدّ ما استطعنا من قوة.. ومن رباط الخيل.. هذا باختصار شديد هو المفهوم العام للحرية.. فهل تؤمن بها حقاً؟! والحرية هي بداية الديمقراطية.. أما الديمقراطية.. فلها حديث آخر.