لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. في عام 1982 كنت في الكلية، وكان العالم كله يهتز انفعالا بفيلم جميل صنعه عمود السينما الأهم ستيفن سبيلبيرج.. رآه الناقد رءوف توفيق في الخارج فعاد ليحكيه لنا في ملف كامل من مجلة الدوحة القطرية، ثم عُرض في مصر، وبعدها صار في كل شيء؛ الملصقات.. الألعاب البلاستيكية.. التي شيرتات.. أدوات المدرسة.. كان أولاد أختي صغيري السن جدا لهذا كانوا يُطلقون على أي ملصق "ستيكر" لفظ "إي تيهات"، مثلما نطلق نحن على أي حفّاضة لفظة "بامبرز". لقد كان أول ستيكر يرونه في حياتهم هو ستيكر يحمل صورة إي تي. لقد حكم إي تي حقبة الثمانينيات بلا جدال، وقهر "حرب الكواكب" ليعلو قائمة أعلى إيراد في التاريخ لمدة عشر سنوات كاملة. على أن الجميع لم يتحمّسوا بهذا القدر؛ فالناقد الكبير -وأبي الروحي- سامي السلاموني كتب ينتقد الفيلم في مجلة الإذاعة والتليفزيون بعنوان: "إي تي.. القرد القادم من الفضاء الخارجي ليضحك على العالم!"، ورأت ناقدة ماركسية أن الفيلم يُحاول تمرير رسالة خطرة هي أن اليهودي كائن وديع لطيف مثل هذا الإي تي، وكل ما يحتاج له هو بعض الحنان! لا تنسَ أن سبيلبيرج يهودي بشدة، وهو لا يكف عن عزف مزمار يهوديته في كل أفلامه، حتى بلغ درجة العزف المنفرد في فيلم "قائمة شندلر".. على كل حال يجب أن أعترف أنني أنا الآخر لم أحبّ الفيلم كثيرا، لكني تعاملت معه برهبة؛ لأنه من المستحيل أن أكون المحقّ الوحيد.
سبيلبيرج صار قوة كاسحة في هوليوود بعد فيلم "الفك المفترس" كان سبيلبيرج قد صار قوة كاسحة في هوليوود بعد فيلم "الفك المفترس" الذي تحوّل إلى أسطورة، وكان هناك إجماع على أن الإمتاع في أفلامه عالٍ جدا، وكلها تحصد الإيرادات حصدا، وإن اختلف النقاد حول قيمته الحقيقية، ورأى بعضهم أنه مجرد شخص يصنع الأفلام التي كان على ديزني أن يصنعها فلم يفعل. كان على سبيلبيرج أن ينتظر طويلا حتى يعترفوا به بشكل رسمي، كتبت سيناريو الفيلم كاتبة سيناريو مهمة جدا هي مليسا ماتيسون، لكنك تدرك بسهولة أنها كانت تنفّذ رؤيا سبيلبيرج فقط، أما التصوير فكان لألن دافيو وهو مصوّر مهم بدوره، أما عن موسيقى جون ويليامز فهي كالعادة فوق التعليق. لفظة "إي - تي" اختصار للفظة extraterrestrial ومعناها "القادم من خارج الأرض"، وقد دشن هذا الفيلم موضة "الفضائي الوديع"؛ فقد ظلّت كل الكائنات الفضائية مخيفة وسافلة حتى العام 1982، عندما قدّم هذا الفيلم احتمالا آخر: "قد يكون الفضائي خائفا مذعورا لا يريد سوى العودة لبيته".
يبدأ الفيلم بسفينة الفضاء التي تنزل للأرض، ويخرج منها هذا الكائن الصغير الرقيق "إي تي"، ثم ترحل السفينة تاركة الصغير المذعور، والذي لا يعرف إلى أين يذهب ولا ماذا يفعل.. إن وجه إي تي صار أيقونة مهمة في الثمانينيات، ويقول صانع المؤثّرات كارلو رامبالدي إنه استعمل عينيّ أينشتاين الحساستين المذعورتين مع تكوين قرد الليمور الشهير، هناك قزم يلبس بذلة إي تي ويضع على وجهه هذا القناع. لكل طفل صديق سري يزعم أنه يراه وحده ولا يراه الكبار.. هذا ما يحدث هنا حرفيا عندما يجد الطفل إليوت الكائن الفضائي في الغابة ويصحبه معه للبيت. نتعرف حياة أطفال الضواحي في أسرة بغير أب غالبا، تلك البيئة التي يستعملها سبيلبيرج كثيرا في أفلامه وهي ببساطة البيئة التي نشأ فيها، بل إنه اخترع لنفسه صديقا سريا عندما طلّق أبوه أمه وهو طفل. يخفي الطفل إليوت الكائن في غرفته، ويتظاهر بأنه محموم ومريض حتى لا يذهب للمدرسة.. مشهد مفعم بالحيوية وإن كان بالألمانية في هذا الكليب إضغط لمشاهدة الفيديو: إن الأطفال ينسجمون مع الحيوانات والكائنات الغريبة بسرعة، لهذا تنشأ صداقة بين الأطفال الثلاثة وذلك الكائن الذي يخبّئونه في غرفتهم.. هذا بالطبع بعد لقاء هستيري مليء بالهلع عندما تكتشف الطفلة ذلك الكائن الذي يُخفيه أخوها في غرفة نومه
إضغط لمشاهدة الفيديو: هناك توحّد واضح بين الطفل إليوت وإي تي.. لاحظ أن اسم الطفل يبدأ وينتهي بحرفي ET. سوف تميّز بين الأطفال تلك الطفلة الحسناء درو باريمور، والتي كبرت وعرفها الجميع فيما بعدُ خاصة في اللقطة الافتتاحية لفيلم "الصرخة"، وهي ترد على مكالمة السفاح. هنا نلاحظ نقطة يلتزم بها الفيلم، هي أننا باستثناء الأم لا نرى الكبار أبدا.. لا ترتفع الكاميرا إلى أعلى من الخصر في أي لقطة، على طريقة أفلام توم وجيري. عالم الكبار مخيف وغامض، بينما الكائن مفعم بالحب والحياة.. إن الورود تزدهر عندما يلمسها، وله قلب خفّاق يتوهج بين الضلوع. النصف الأول من الفيلم ساحر حقا، عندما يصادق إي تي كلب الأسرة، أو عندما يشرب البيرة ويسكر، أو عندما ينقذ الضفادع من التشريح في المدرسة عن طريق التخاطر مع إليوت (لاحظ أنه يشبه الضفادع هو نفسه لذا يتعاطف معها)، وهو مشهد شاعري فعلا، ينتهي بقبلة لفاتنة الصف..
إضغط لمشاهدة الفيديو: وهو يصمم جهازا يخاطب به كوكبه لينقذوه، ولا يكفّ عن تكرار اللفظة الإنجليزية التي يعرفها: "إي تي يتصل بالبيت" (ET phone home) شاهد هذا المشهد المؤثّر هنا مع ثلاثة الأطفال إضغط لمشاهدة الفيديو: ثم أن إي تي يمرض ويوشك على الموت، بل يموت فعلا، ويصير فأر تجارب لدى الحكومة الأمريكية في مشاهد ضخمة من التي تروق جدا لسبيلبيرج. هنا يتمادى سبيلبيرج فيربط بين إي تي والمسيح -عليه السلام- ذاته، والنقاد الذين فطنوا لهذا أدهشتهم غلظته التي تصل لدرجة الوقاحة. لاحظ أفيش الفيلم الذي يظهر تلامس الأصابع، وهو استنساخ للقطة من لوحة مايكل أنجلو عل سقف كنيسة سستتين؛ حيث يمد المسيح إصبعه بذات الطريقة. إن إي تي يموت ثم يبعث من جديد، ويحمله أصدقاؤه على دراجاتهم في سباق رائع.. تذكر مشهد عبور الدراجات أمام قرص القمر الذي صار بعد هذا رمزا لشركة سبيلبيرج الأولى "أمبلين".. شاهده هنا بعد دقيقة إضغط لمشاهدة الفيديو: أو هنا.. مطاردة دراجات مثيرة جدا إضغط لمشاهدة الفيديو: إي تي يصعد إلى السماء في مشهد شبه ديني عندما تهبط سفينة الفضاء.. هنا يتدخّل الإخراج العبقري مع موسيقى جون ويليامز الساحرة لجعل الجميع يبكون.
إضغط لمشاهدة الفيديو: حرص سبيلبيرج على تصوير الفيلم بالترتيب وكما نراه على الشاشة بالضبط، وهذا حتى يبني مشاعر الأطفال الممثلين تدريجيا، وهذا ترف لا تقدر عليه السينما المصرية مثلا. أنت تصوّر كل مشاهد ميدان التحرير معا؛ سواء ما كان منها في أول الفيلم أو آخره، لتقليل تكاليف العودة للميدان مرة أخرى. شاهد ملخصا سريعا للفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: لم يكف سبيلبيرج عن إدخال تعديلات على الفيلم كعادته، وهكذا هناك نسخة 1985 ونسخة 2002، وفي كل مرة هناك تغييرات معينة تدفع الناس دفعا لشراء الفيلم الجديد. لا بد أنك شاهدت الفيلم ويمكنك أن تحكم إن كان إي تي كائنا فضائيا رقيقا شاعريا، أم هو على رأي سامي السلاموني "القرد القادم من الفضاء الخارجي ليضحك على العالم".. ومهما كان رأيك فهو فيلم مهم لا بد أن نحتفظ به في الحافظة الزرقاء.