لثوان، حدَّق (جو) ذاهلاً، في ذلك الواقف أمامه.... كان ذهنه، في الثانية التي مضت، بين تحرّك رتاج الباب، ودخوله، قد رسم له ألف صورة وصورة.... رسمها خياله المذعور.... ورسمتها عشرات من أفلام الخيال العلمي، التي تجعل كائنات الفضاء تبدو دوماً في صورة مخيفة....
تصوره أشبه بحشرة هائلة.... أو بديناصور مفترس..... أو كشيء أشبه بالبشر.... شيء أزرق..... أو أحمر.... أو أخضر.....
له ثلاثة أرجل..... أو ست عيون.... أو مخالب وأنياب....
لذا؛ فقد اتسعت عيناه عن آخرهما، عندما وجده شديد الشبه بنا.... بالبشر....
كان رجلاً هادئ الملامح، قوي البنية، له رأس أصلع، إلا من شريط من الشعر، يمتد من منتصف رأسه المستديرة إلى ما خلفها......
وكان يرتدي حلة سوداء أنيقة، على ياقتها بطاقة، تحمل صورته، مع رقم بحروف كبيرة، وفي ركنها شريط أحمر قان.... باختصار، كان يبدو كرجل رسمي، يلتقي به في مكتب من مكاتب الأمن....
ولثوان، وقف ذلك الرجل صامتاً، و(جو) يحدَّق فيه ذاهلاً؛ حتى بدأ هو الحديث، هاتفاً بصوت مبحوح: - ماذا تريدون مني؟!.. أجابه الرجل في صرامة: - اهدأ يا (جوزيف). حدَّق فيه (جو) بذهول أكثر... لقد كان يتوقع منه أية لغة؛ إلا تلك اللغة، التي نطق بها عبارته.... كان يتوقع صوتاً كالصفير.... أو كفحيح الثعابين.... أو زمجرة الوحوش....
كان يتوقع لغة غير أرضية.... ولكن ما جاءه وما سمعه كان لغة أرضية تماماً..... لغته.... اللغة العربية.... وبلهجة مصرية خالصة....
ولقد تراجع (جو) بحركة حادة، عندما سمع الكلمة؛ فاستطرد الرجل في هدوء، حاول أن يخفف فيه من صرامته: - أصدقاؤك يخاطبونك ب (جو).... أليس كذلك؟!.. شحب وجه (جو)، وهو يسأله: - هل تعرفني؟!.. أجابه الرجل في سرعة: - بالتأكيد. ازدرد (جو) القليل من لعابه في صعوبة، قبل أن يقول، في صوت أشد شحوباً من وجهه: - كنتم تراقبون كوكبنا منذ زمن طويل إذن. حدَّق الرجل فيه لحظة، ثم انفجر ضاحكاً..... ومع ضحكاته، انتفض جسد (جو)... انتفض.... وانتفض.... وانتفض....
أما الرجل؛ فقد أنهى ضحكاته، وهو يردد: نعم.... كانت مركبة فضائية بحق - كوكبكم؟!... ألست من كوكب الأرض مثلنا يا (جو). ارتجف صوت (جو)، وهو يغمغم: - مثلكم؟!... هل تعني؟!.. قاطعه الرجل، وهو يتجه نحوه، في خطوات رصينة: - نعم... مثلنا.... ما الذي تصوَّرته بالضبط؟!.. هل تدمن مشاهدة الأفلام الخيالية أم ماذا؟!.. تراجع (جو)، في حركة غريزية، وهو يغمغم: - على العكس.. مرة أخرى قاطعه الرجل، وهو يواصل اتجاهه نحوه: - آه.... نسيت.... ملفك يقول: إنك واقعي للغاية. اتسعت عينا (جو)، وهو يغمغم: - واقعي. كان يواصل تراجعه، حتى التصق بالجدار البارد، فابتسم الرجل، وتوٌّقف لحظة، ثم جلس على طرف الفراش، قائلاً: - لدينا ملف كامل عنك... وعن كل الشخصيات المتميزَّة مثلك. غمغم (جو) في دهشة مذعورة: - مثلي أنا؟!.. أشار إليه الرجل، قائلاً: - أنت خبير في التوجيه الصوتي.... أليس كذلك؟!.. قال(جو)، في بطء حذر: - ليس هذا اسمه العلمي. هزَّ الرجل كتفيه، وهو يقول: - المهم أنه كيفية تحديد مطلب أي كائن، من خلال ما يصدره من أصوات... أليس هذا هو المعنى؟!... غمغم (جو)، في حذر أكثر: - إلى حد ما.... التقط الرجل نفساً عميقاً، وقال في ارتياح: - عظيم. حدَّق فيه (جو)، دون أن يجرؤ على سؤاله عمَّا يعنيه؛ ولكن جسده انتفض مرة أخرى، عندما عاد الرجل ينهض واقفاً، وهو يسأله، وقد استعادت لهجته صرامتها: - أخبروني أنك قد رأيت ذلك الشيء يا (جو) واتسعت عينا (جو) عن آخرهما.... وسقط قلبه بين قدميه.... إذن فلهذا اختطفوه.... لقد رآهم.... وأدرك وجودهم.....
استعاد مرة أخرى ثقته، في أن الواقف أمامه ليس أرضياً.... إنه كائن من كوكب آخر.... كائن يتخذ هيئة البشر....
لقد رأى هذا كثيراً، في أفلام الخيال العلمي الهزلية..... دوماً ما تنتحل الكائنات الفضائية هيئة البشر؛ حتى يمكنها خداعهم، والسيطرة عليهم.... دوماً....
وكمحاولة للدفاع عن كيانه، تمتم (جو)، في صوت نافس وجهه شحوباً: - لم أر شيئاً. عاد الرجل يقترب منه، قائلاً بنفس الصرامة: - بل رأيت... حاول (جو) أن يتراجع؛ ولكن هذا كان شبه مستحيل؛ لأنه يلتصق بالجدار بالفعل؛ لذا فقد انكمش في مكانه، والرجل يواصل الاقتراب منه، حتى صار أمامه مباشرة، وتطلَّع إليه، مضيفاً: - رأيت المركبة الفضائية. واتسعت عينا (جو) أكثر وأكثر.... مركبة فضائية!!.... إذاً لقد كان ما رآه صحيحاً... هناك مركبة فضائية، أو طبق طائر، طاردته القوات الجوية في سماء مدينة (الرحاب)، وأسقطته....
لقد كان ما رآه صحيحاً تماماً.... ودون أن يدري، وجد نفسه ينقل ما يدور في ذهنه إلى لسانه، وهو يغمغم: - إذن فهي مركبة فضائية بحق! ابتسم الرجل ابتسامة ظافرة، توحي بأنه قد حصل على ما أراد، ومد يديه نحو (جو)، فازداد هذا الأخير انكماشاً؛ ولكن الرجل ألصق راحتيه بالجدار، على يمين ويسار رأس (جو)، ومال نحوه أكثر، حتى كاد يلتصق به، وهو يتطلَّع إلى عينيه مباشرة، قائلاً: - نعم.... كانت مركبة فضائية بحق.... وقد سقطت على مسافة ثلاثة كيلو مترات فحسب، من مدينة (الرحاب) حيث تقيم، ولكننا نجحنا في السيطرة على الموقف في سرعة غمغم (جو) في شحوب: - قالوا: إنها طائرة سقطت و..... قاطعه الرجل: - أنت تعلم ما يحدث، في مثل هذه الأمور.... الحكومات دوماً تخفي ما يحدث.... وصمت لحظة، ثم عاد يكررَّ، في صوت صارم: - أنت تعلم هذا.... أليس كذلك؟!.. غمغم (جو): - بلى. تراجع الرجل، وعيناه تتألقان، ثم أدار ظهره، وهو يقول: - ولكننا نحتاج إليك. سأله (جو) في سرعة، ودون تفكير: - أنتم من؟!.. صمت الرجل لحظات، وهو يوليه ظهره، ثم أخرج من جيبه شيئاً صغيراً، في حجم أصبع اليد، ضغط عليه، وهو يلتفت إلى (جو) قائلاً: - نحن... ألم تدرك بعد من نحن؟!.. واتسعت عينا (جو) عن آخرهما.... فما حدث بعدها، كان هو الدهشة..... بعينها.