أضواء ساطعة، ضربت عيني (جو)، وهو يعبر تلك الحدائق، المحيطة بمنزله في مدينة (الرحاب).... أضواء بهرت بصره لحظات؛ فأغلق عينيه في قوة، وهو يتراجع، محاولاً الفرار من عدو مجهول.... وقبل أن يغلقهما بلحظة واحدة، شاهد أولئك الذين انقضوا عليه في سرعة.... تحت ذلك الضوء الساطع، لم يتبين ملامحهم جيداً.... ولكن أجسادهم كانت تشبه أجساد البشر.... تقريباً.... أو ربما كانوا بشراً.... ولكن الوقت لم يمهله للتيقَّن...
لقد انقض عليه ثلاثة منهم، وشعر بأحدهم ينتزع منه هاتفه المحمول، وبآخر يمسك معصمه في قوة، فصرخ: - ماذا تريدون مني؟!.. مع صرخته، اندفع ذلك الرزاز القوي في وجهه... وعلى الرغم منه، استنشقه في قوة... ودار رأسه في عنف... ثم راحت الدنيا تظلم من حوله، وبدت تلك الأجساد أكثر تشوهاً، وهو يهتف في ضعف: - من أنتم؟!.. وضع أحدهم يده على رأسه، وتمتم بكلمات لم يفهمها.... أو أنها بدت مشوَّشة تماماً.... مثل صورتهم... وبعدها، أظلمت الدنيا في سرعة.... ثم غاب عن الوعي...
من الواضح أنه لم يفقد وعيه تماماً؛ فقد شعر بهم يحملونه، ويضعونه في مركبة ما.... وانطلقت بهم تلك المركبة.... ومع انطلاقها، اكتمل الظلام... وفقد وعيه... تماماً.... ثم فجأة، وبلا مقدمات، استعاده.... استعاده بانتفاضة قوية، شملت جسده كله، مع قشعريرة باردة، شملت كيانه، من أقصاه إلى أقصاه، مع تلك البرودة المحيطة به....
وبلا مقدمات أيضاً، فتح عينيه.... وحدَّق فيما حوله... في ذعر.... وذهول..... للوهلة الأولى، بدا له أنه ليس في مكان مألوف... كان تكوين المكان كله يشبه تكوينات الأثاث المعتادة.... ولكنه كان يتكوَّن كله من كتلة واحدة...
فراش صغير، ومقعد، ومنضدة، وشاشة كبيرة، كلها بدت وكأنها مصنوعة من قطعة واحدة، من معدن لامع للغاية.... ومصقول إلى أقصى درجة.... ذلك المشهد ذكَّره مرة أخرى بروايات الخيال العلمي.... وبمشاهد سكان الفضاء.... ومشاهد الرعب أيضاً..... تماماً، مثلما يحدث في تلك النوعية من الأفلام.... سكان كواكب أخرى، جاءوا في ذلك الطبق الطائر الذي رآه ورصده بنفسه... ولأنه رآه ورصده..... اختطفوه... وها هو ذا الآن بين أيديهم....
داخل مركبتهم الفضائية، أو سفينتهم الأم، كما يقولون في تلك الأفلام، التي طالما رأى أنها مغرقة في الخيال.... سرى خوف شديد في ذهنه، مع مرور الفكرة في كيانه.... هل اختطفه سكان كوكب آخر بالفعل؟.... أيعني هذا أنهم سيأخذونه معهم إلى كوكبهم؟!.... ألن يرى زوجته (إيناس) مرة أخرى؟!.... ألن يعود إلى بيته في (الرحاب)؟!... بل ألن يعود ثانية إلى كوكب الأرض؟!.....
كان هذا فحسب ما يدور في ذهنه؛ حتى قفزت إليه فجأة فكرة أخرى مرعبة، جعلت عيناه تتسعان عن آخرهما.... وراح يتحرَّك في تلك الحجرة المعدنية الضيقة في عصبية ماذا لو أنهم لا يفكرون أبداً في حمله إلى كوكبهم؟!.... وماذا لو أنهم سيجرون تجاربهم عليه هنا؟!... على الأرض؟!....
انتفض جسده مرة أخرى في رعب، وهو يتصوَّر نفسه فأر تجارب، في يد مخلوقات عجيبة، تجري عليه اختباراتها وتجاربها..... أو ربما تسعى لفحص سماته التشريحية.... وهذا يعني تشريحه!!....
اتسعت عيناه في ارتياع بالغ، وقفز من فوق ذلك الفراش المعدني، الذي يرقد عليه، وراح يتحرَّك في تلك الحجرة المعدنية الضيقة في عصبية، بحثاً عن مهرب ما....
لم يكن هناك، في الحجرة كلها، سوى باب واحد، أشبه بأبواب الغوَّاصات القديمة، التي يراها في السينما، له رتاج من نفس مادة الحجرة، وغير مزوَّد بأية فتحات لأية مفاتيح....
حاول أن يفحص الرتاج في سرعة، بأصابعه شديدة الارتجاف، ولكن حتى هذا لم يكن بالأمر اليسير.... كما لم تكن هناك أية فتحات في هذا الرتاج، لم تكن هناك أيضاً وسيلة لفحصه.... أية وسيلة!!.... كان وكأنه صنع مع باقي أثاث الحجرة.... من كتلة واحدة.... هو إذن رتاج إليكتروني على الأرجح.... أو هو رتاج بلازمي، أو هولوجرافي، أو أي من تلك المسميات، التي يغرقون بها قصص وأفلام الخيال العلمي....
المهم أنه يسجنه، داخل تلك الحجرة..... ولقد تراجع مبتعداً عن الباب، واستدار إلى الشاشة الكبيرة المظلمة، وصرخ بكل قوته: - من أنتم؟!... صمت لحظة، وكأنما يتوقع جواباً، ثم صرخ مرة أخرى: - ماذا تريدون مني؟!... جاوبه في هذه المرة أيضاً صمت مطبق، أثار أعصابه أكثر؛ فراح يصرخ، على نحو هيستيري: - لماذا تخفون أنفسكم؟!... أأنتم بشعون إلى هذا الحد؟!.... لماذا تخفون أنفسكم؟!... كان ذلك الصمت العجيب مستفزاً للغاية، ولكنه فجأة تحطَّم بأزيز مباغت قوي.... أزيز جعل (جو) يقفز من مكانه مذعوراً، ثم يلتفت في حركة حادة إلى الشاشة الكبيرة، التي انبعث من عندها ذلك الأزيز....
ثم فجأة، ظهرت صورة على الشاشة الكبيرة.... وارتد (جو) في عنف.... فتلك الصورة لم تكن صورة تلك المخلوقات الفضائية... بل صورته هو.... آلة تصوير خفية كلنت ترصده، وتنقل ملامحه إلى الشاشة، بكل ما عليها من انفعالات.... وعلى نحو مكَّبر للغاية....
ولثوان، حدَّق في صورته ذاهلاً، قبل أن يصرخ، في مزيج من الغضب والخوف والعصبية: - ماذا تريدون مني؟!.... رددَّ صوت آلي عبارته بالضبط، مع إيقاع معدني عجيب، جعله يستعيد مرة أخرى ذكرى تلك الأفلام الخيالية....
إنهم يدرسونه.... يدرسون طبيعته وانفعالاته.... ويدرسون أيضاً كلماته.... حاول أن يختبر هذا، فهتف: - اسمي (جوزيف صبحي)...... مهندس صوتيات. رددَّ ذلك الصوت الآلي عبارته، بنفس الإيقاع المعدني، فقال في عصبية: - أعلم ماذا تفعلون. رددَّ الصوت الآلي عبارته مرة أخرى، فتابع في عصبية أكثر: -إنه نفس تخصَّصي.... تحديد ما يريده كائن ما، عبر الأصوات التي يستخدمها. هذه المرة، لم يردد الصوت الآلي عبارته؛ وإنما ساد صمت شديد، حتى صورته المكبَّرة على الشاشة، لم تعكس أية أصوات.... ولثوان صمت (جو) بدوره... ولكن عصبيته تضاعفت.... وتضاعفت.... وتضاعفت.... ولكنه لاذ بالصمت الحائر القلق هذه المرة.... لقد تصوَّر لحظة، أنه يفهم ما يسعون إليه، ولكنهم أفسدوا تصوَّره هذا تماماً، في اللحظة التالية... فماذا يريدون منه؟!... ماذا؟!...
مع آخر خاطر جال بذهنه، انفتح رتاج الباب فجأة بصوت مسموع.... والتفت (جو) بحركة حادة إلى الباب، الذي انزلق في نعومة لينفتح... وخفق قلب (جو) بقوة... بمنتهى القوة....
ثم فجأة، عبر جسد ما الباب... وشهق (جو) بكل قوته.... فذلك الجسد، الذي عبر الباب، كان آخر شيء يمكنه توقَّعه..... على الإطلاق. يتبع إقرأ أيضا: أكشن: القادم (1).. دوي أكشن: القادم (2).. الشائعة أكشن: القادم (3).. مفقود