الرئيس السيسي: سيناء تشهد جهودا غير مسبوقة لتحقيق التنمية الشاملة    شوشة عن إنجازات سيناء الجديدة: مَنْ سمع ليس كمَنْ رأى    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    "أبو زعبل للصناعات الهندسية" تكرم المحالين للمعاش    الأردن يسير قافلة مساعدات جديدة مكونة من 115 شاحنة إلى غزة    نادي الأسير الفلسطيني: الاحتلال يعتقل 8455 من الضفة منذ بدء العدوان    البحرية البريطانية: بلاغ عن حادث بحري جنوبي غرب عدن اليمنية    اقتحام أكثر من 1128 مستوطنًا لباحات المسجد الأقصى    الكويت ترحب بنتائج تقرير أداء "الأونروا" في دعم جهود الإغاثة للفلسطينيين    مواعيد مباريات الخميس 25 إبريل - الأهلي والزمالك في بطولة إفريقيا لليد.. ومواجهة صعبة لمانشستر سيتي    صباحك أوروبي.. بقاء تشافي.. كذبة أنشيلوتي.. واعتراف رانجنيك    مفاجأة غير سارة لجماهير الأهلي قبل مواجهة مازيمبي    الأهلي يصطدم بالترجي التونسي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    موعد مباراة الزمالك وشبيبة أمل سكيكدة الجزائري في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    تحذيرات الأرصاد الجوية ليوم الخميس 25 أبريل 2024    التريلا دخلت في الميكروباص.. 10 مصابين في حادث على صحراوي البحيرة    مصرع وإصابة 10 أشخاص إثر تصادم سيارتين في البحيرة    حمزة العيلى عن تكريم الراحل أشرف عبد الغفور: ليلة في غاية الرقي    اليوم.. حفل افتتاح الدورة ال 10 لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    الليلة.. أنغام وتامر حسني يحيان حفلا غنائيا بالعاصمة الإدارية    وزير التعليم العالي: تعزيز التعاون بين منظومة المستشفيات الجامعية والتابعة للصحة لتحسين جودة الخدمات    «الإسكان» تسترد 9587 متر مربع من الأراضي المتعدى عليها بالسويس الجديدة    "مستقبل وطن": تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    بعثة الزمالك تغادر مطار القاهرة استعدادا للسفر إلي غانا لمواجهة دريمز    فرج عامر: لم نفكر في صفقات سموحة حتى الآن.. والأخطاء الدفاعية وراء خسارة العديد من المباريات    عادل الغضبان يهنئ أبناء محافظة بورسعيد بالذكرى ال 42 لعيد تحرير سيناء    سعر الدولار اليوم في مصر 25-4-2024.. كم سجلت العملة الخضراء بالبنوك بعد آخر انخفاض؟    تنتهي 11 مساءً.. مواعيد غلق المحلات في التوقيت الصيفي    مواعيد المترو بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. اعرف جدول تشغيل جميع الخطوط    الشواطئ العامة تجذب العائلات في الغردقة هربا من الحر.. والدخول ب20 جنيها    نشرة مرور "الفجر ".. سيولة بمحاور القاهرة والجيزة    أسعار السمك البلطي والبياض اليوم الخميس25-4-2024 في محافظة قنا    انقطاع مياه الشرب عن منشية البكري و5 مناطق رئيسية بالقاهرة غدًا    وزير النقل يشهد توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات تحيا مصر 1 بميناء دمياط    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    هل يوجد فرق بين صلاتي الاستخارة والحاجة؟ أمين دار الإفتاء يوضح    طرح محال وصيدلتين ومخبز واستغلال أماكن انتظار مركبات بالعبور بالمزاد العلني    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    الصحة: 3.5 مليار جنيه لإنجاز 35 مشروعا خلال 10 سنوات في سيناء    احتجاجات طلابية في مدارس وجامعات أمريكا تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة    حبس المتهم بإنهاء حياة شخص بسبب الخلاف على المخدرات بالقليوبية    لأول مرة .. أمريكا تعلن عن إرسالها صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا    أستاذ دراسات دولية: الصين تسعى لتهدئة الأوضاع في الحرب الروسية الأوكرانية    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    مشاجرات خلال اعتقال الشرطة الأمريكية لبعض طلاب الجامعة بتكساس الرافضين عدوان الاحتلال    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    المنيا.. السيطرة على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بملوى دون خسائر في الأرواح    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    تقسيط 30 عاما.. محافظ شمال سيناء يكشف مفاجأة عن أسعار الوحدات السكنية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أز يز
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 08 - 2010

لم تمض غير أسابيع قليلة علي رئاسته للقسم حتي اكتشف أنه قد افتقد للونس الذي كان يتيحه له وجوده في قاعة كبيرة تعج برهط كبير من الموظفين الذين كانوا يصنعون جلبة محببة. ابتسم حين تذكر براد الشاي الكهربائي الذي كان يصدر أزيزا عجيبا كان مثار سخريات كثيرة، خاصة حين كان الأستاذ كامل الذي برع في تقليد رؤسائه يبالغ في تشبيه صوت رئيس القسم السابق بهذا الأزيز. عند هذه النقطة بالذات شعر بأن إهانة كبيرة قد وُجهت إليه، وتساءل بينه وبين نفسه إذا ما كان كامل لا يزال علي عادته الماجنة في تقليد الرؤساء، تساءل إذا ما كان كامل يمضي الآن في تشبيه صوته بأزيز البراد بعد أن صار رئيسا للقسم. وكأنما لدغته هذه الفكرة في مقتل، قام وفتح باب غرفته الكبيرة علي اتساعه حتي يتمكن من سماع أصوات الموظفين في القاعة التي تضم كامل وزملاءه القدامي والتي تواجه مكتبه، غير أن الحاجز الزجاجي الذي كان يفصل بين القاعة ومكتبه لم يُمكّنه من سماع أي صوت. وفي لمحة بدا له الموظفون وهم يضحكون بلا صوت مسموع كدليل علي تواطؤ الحاجز الزجاجي معهم لمنعه من اكتشاف إلي أي حد يتمادون في السخرية منه، لكنه في عودته لمقعده الوثير تذكر أن كامل لا يمكن أن يسخر منه، فعلي الأقل كانا هو وكامل صديقين، ولطالما كان يلقاه في المقهي ويلقيان بساعات ما بعد العمل فوق الطاولة مع رمية الزهر، غير أنه الآن والآن بالذات قد شعر كم هو وحيد في هذه الغرفة الكبيرة مع مكتبه الكبير بلا داع، فقد تذكر أنه لم يلتق بكامل في مقهاهما منذ فترة لم يحسبها، مهام الوظيفة الجديدة ومحاولة تثبيت مكانته لدي رئيس مجلس الإدارة حالا بينهما واللقاء. مسح نظارته وحاول أن يطمئن نفسه مؤكدا أن هذا ليس مبررا كافيا لكي يسخر منه كامل ويشبّه صوته بأزيز البراد الكهربائي الذي يصدر زنة معدنية مزعجة.
عاد فأغلق الباب ثانية، وحين اطمأن إلي أن ما من أحد يمكنه سماعه بدأ في إصدار أصوات غير مفهومة وعبارات متقطعة حتي أنه بدأ في الغناء بصوت عالٍ ربما ليطمئن أن صوته لا يُشبه الأزيز، أي أزيز. ولكن إحساسه بالوحدة في هذه اللحظة بدأ يتفاقم، وشعر كم يشفق علي نفسه من هذه الوحدة الطاحنة التي تضيّق عليه الحجرة الكبيرة رغم أنها له وحده.
بدأ في تأمل الحجرة كأنما يراها للمرة الأولي، وكأنما صحا من نوم عميق ليجد نفسه وحيدا فيها، وجد أن مكتبه يمتد أمامه لمسافة كبيرة حتي أن ذراعيه علي امتدادهما لا تصلان لنهايته وأنه يضطر في بعض الأحيان إلي الوقوف كي يضبط وضع الساعة المكتبية أو لجلب قلم من مقلمة المكتب. وجد أن حضور الأشياء فوق مكتبه ليس حضورا مريحا بالنسبة له. أخذ في جلب الأشياء كلها من علي سطح المكتب لتصبح في متناول يده، الساعة، المقلمة، النتيجة، قاطعة الخطابات، الأوراق، الملفات، غير أن هذا لم يرضه في نهاية الأمر فقد بدا المكتب في غاية الحمق بكل هذه المساحة العارية التي صارت له كصحراء تنغرز في ركن منها تلة من الأشياء التي لا حاجة لأحد فيها، حتي أن امتداده أي المكتب بدا أكبر من اللازم بعد أن صار قاعدة خالية يسمح وجهها المصقول اللامع بإثارة استفزازه. أعاد الأشياء كما كانت عليه، وقرر أن وضع المكتب في الحجرة ليس مريحا بالمرة، وفي لحظات كان قد نادي علي ساعيين كي ينقلا المكتب من مكانه ويعيدا ترتيب الحجرة الواسعة وسعا لا لزوم له.
بدا للحظات في غاية الحمق وهو يقف كالأبله في منتصف حجرته لا يعرف ما يريده بالضبط، أحس وكأن مهمة في غاية الجسامة قد ألقيت علي رأسه فجأة، رغم أن أثاث الحجرة لم يكن سوي مكتب ودولاب صغير للملفات ومكتبة صغيرة تحوي كتبا كانت تخص الرئيس السابق للقسم، غير أن الأمر بدا له وكأنه بصدد إعادة ترتيب العالم بحاله، وهو ما لم يكن يخطر بباله أن يفعله في يوم من الأيام.
استقر رأيه أخيرا علي أن ينقل المكتب أولا في مواجهة باب الغرفة حتي يمكنه رؤية الموظفين الذين تقع حجرتهم في مواجهة حجرته، رغم أن الباب والجدار الزجاجي سوف يحجبا عنه أحاديثهم وما يلقونه من نكات بين الحين والآخر، فكر أن ذلك علي الأقل سوف يسمح له بمراقبة كامل الذي سوف يكون مكتبه في مواجهته طوال الوقت، وبقليل من الجهد في قراءة حركة الشفاه سوف يتمكن أخيرا وباستمرار من معرفة أي سر يخفونه. هكذا فكر بينما كان يمر في الممر الذي يفصل مكتبه عن حجرة الموظفين الذين بدوا له أكثر خبثا مما كان يظن بهم طوال سنوات الزمالة. في مروره لاحظ أن الموظفين يسترقون النظر إليه، فلم يكن من المعتاد منذ وصوله لهذا المنصب رؤيته يتسكع في الممر كما لو كان يشاهد معروضات في فتارين محال في شارع خالٍ. ورغم أنه جاهد كثيرا كي يجعل تسكعه أمرا عاديا، ورغم حرصه علي ألا يلاحظه أحدهم بينما يتلصص عليهم فإن لحظات الفضول السريعة التي انتابته كانت كفيلة بفضحه أمامهم، وكانت مجرد ملاحظته أنهم قد بدأوا ينظرون إليه كافيا لجعله يشعر بالعري، وزاد الأمر سوءاً أنه في لمحة خاطفة رآهم يضحكون بصورة بدت هستيرية وشريرة في نظره، وبالطبع كان كامل في بؤرة الصورة، يقف هازا جسده السمين مقلدا أحدٍ ما، مما جعل الأمر برمته غير محتمل بالمرة. شعر بوجهه يحمر بسرعة غريبة، وهو ما كان قد كف عن فعله منذ أن صار رئيسا للقسم مُهابا من الجميع. ذكّره هذا الاحمرار المفاجئ بما كان يحدث له من قبل حين كان يستدعيه رئيس القسم السابق ذلك الذي كان صوته يشبه أزيزا معدنيا قبل أن يحال للتقاعد، وهو ما ظل لسنوات كثيرة يجاهد كي لا يحدث، أو علي الأقل كي يخفيه عن رئيسه، فكر أن يعود لحجرته ويستدعي كامل، وتساءل إذا ما كان استدعاؤه كامل في هذه اللحظة سوف يتسبب في إحمرار وجهه أم أن كامل سوف يكون أكثر سيطرة علي وجهه. شعر أنه قد يدفع عمره كله من أجل هذه اللحظة.
عاد لمكتبه، لا ليستدعي كامل، فقد أحس بالخزي لمجرد التفكير في هذا الخاطر، ولكن ليتفقد حجرته بعد أن أعيد ترتيبها. جلس علي مقعده الوثير، استراح لوضعه الجديد، وشعر بسعادة غريبة لم يشعر بها منذ سنوات كثيرة، سعادة لم يعرف مصدرها، فليست الترقية بالطبع ولا جلوسه في حجرة خاصة، ولا استراحته في مقعد ذي عجلات تمكنه من الدوران بلا مشقة. إطمأن لفكرة أن سعادته هذه ليست لها علاقة بأي من هذه الأشياء، ورغم أن تلاقي عينيه بعيني كامل حين نظر أمامه عبر الباب والحاجز الزجاجي كاد أن يطيح بهذه السعادة، فإن تشبثه بلحظة سعادة غامرة تأتيه في نهاية العمر كان أشد قوة من كل نظرات الآدميين، وفكر أن كوب شاي بالنعناع في هذه اللحظة يُعد مكافأة مناسبة لهذا الإصرار غير المعتاد علي التشبث بالسعادة.
مد يده لاستدعاء الساعي من أجل كوب الشاي بالنعناع، غير أنه اكتشف أن استدعاء الساعي لم يعد ممكنا الآن بعد أن غيّر مكان مكتبه، لقد كان زر الجرس مثبتا في الحائط بجوار المكتب في مكانه القديم، أما الآن بعد أن غيّر مكان المكتب لم يعد لديه إلا حل من ثلاثة لاستدعاء الساعي، فإما أن يقوم في كل مرة ليضغط علي الزر في الجدار المقابل، وهو حل غير عملي بالمرة، وإما أن يقوم أيضا في كل مرة ليخرج من مكتبه لينادي عليه، وهو مضيعة للوقت بالتأكيد، وإما أن يترك
بابه مفتوحا طوال الوقت لكي يتمكن من أن ينادي عليه وقتما شاء، غير أن الأخير بدا له كحل مذل، وفيه انتقاص من قيمته، فماذا لو لم يسمعه الساعي فهنا سوف يضطر لأن يصرخ، ولكن ماذا لو تجاهل الساعي صوته وصراخه مدّعيا أنه لا يسمعه؟! وهو ما كان يفعله أحيانا مع الرئيس السابق للقسم حين يكون قد انهار من المشاوير.
شعر بأن العالم قد تواطأ للإطاحة بسعادته، غير أن بقايا تشبثه بالسعادة جعلته يفكر سريعا في أن يأمر بأن يُنقل زر الجرس من مكانه القديم إلي جوار المكتب، بدا له هذا الحل عبقريا جدا خطر له في لحظة إلهام، بل عدّه من علامات نجابة كانت دفينة واستدعتها مقتضيات المنصب الجديد، وشعر الآن أنه الرجل المناسب في المكان المناسب. ولكن؛ لم تمر سوي لحظات حتي قال في نفسه "يبدو أن اليوم ليس يوم سعدي"، ففي اللحظة التي قام فيها ليعطي أوامره بنقل زر الجرس إلي جواره تبين أن فكرة نقل المكتب من مكانه لم تكن فكرة موفقة علي الإطلاق، فقد كانت نظرة واحدة للمكان بعد ترتيبه علي هذا النحو كفيلة لتسريب مثل هذا الاعتقاد، فقد كانت المكتبة مثلا في وضعها القديم كمن يتستر علي مجرم عتيد في الإجرام، لقد كانت تخفي وراءها جزءاً من الجدار، بالتحديد الجزء المتقيح منه، ولم يعرف حتي بعد أن تجاوز صدمته بما رآه ما إذا كان هذا الجزء من الجدار قد غافله وغافل رئيس القسم السابق وأخذ في التقيح بفعل الزمن، كجزء مختفٍ وراء مكتبة ليس لأحد حاجة إليه، ولن يكشف أحدهم جريمته، أم أن المكتبة وُضعت أمام هذا الجزء عمدا كي تُخفي ألما بالغا في الجدار، أم أن هذا الجزء قد قرر معاقبته بسبب تجاهل تعرض له كل هذه السنوات علي يد رؤساء أقسام متعاقبين.
ورغم أن هذه الفكرة كانت مستبعدة تماما بحكم خياليتها وعدم انتمائها إلي المنطق فإن هواجس الشك التي كانت آخذة في الإحاطة به كانت ترشح هذه الفكرة بقوة، والواقع أن دلائل كثيرة قد بدا أنها تدعم هذا الرأي. فها هو الدولاب كان قابعا خلف الجدار المشترك بين الحجرة وبين الحمام مخفيا خلفه نشع رطوبة بدأت في ضخ رائحة العطن في المكان، وها هو المكتب كان كأبي الهول يقف حارسا لمدينة الموتي تحته، كانت مساحة بطول وعرض المكتب علي موكيت الحجرة كما لو كانت قد تم كشطها بعناية وحرفية، فلم تصبح مختلفة فحسب في لونها بل إنها صارت بلا لون أيضا، ورغم أن الموكيت في الحجرة لا يشبه الموكيت من قريب أو بعيد فعلي الأقل كان يجعل أرضية حجرة المكتب تشبه أرضيات حجرات رؤساء الأقسام في المصالح الحكومية.
اكتمال الصورة علي هذا النحو أصابه بالغم، حتي أنه شعر لحظتها بحزن أسود بدأ يستقر في وعيه، ويوشك أن يصبح مُقيما. كان الشك قد تمادي تماما لديه، بأنه ليس البشر فقط، ولكن قوي خفية أيضا تتلاعب بمصيره وبمستقبله في هذه اللحظة. ولولا بقية من تماسك لانفجر باكيا وانهار في مقعده الوثير الذي لم يعد في رأيه مناسبا لحالته. حاول أن يتذكر متي في هذا العمر المديد الذي بذله في هذه المصلحة كانت الحجرة مرتبة علي غير هذا النحو، والحقيقة أن سلسلة تذكاراته بشأن هذا الأمر جعلته يستبعد أمر هذه القوي الخفية، لقد استعاد شريط ذكرياته الخاص بهذه الحجرة، ووقر في ذهنه أنها رغم تغير قاطنيها لأكثر من ربع قرن فإنها لم تكن في يوم من الأيام علي صورة غير هذه الصورة، وشعر بالطبع حينها بأن إعادة ترتيب الحجرة كان حمقا لا لزوم له، ولذا فقد حدّث نفسه بأن الأشياء في مستقرها الأبدي كأفضل ما يكون، وأن ما من شيء في الكون الواسع الرائع أجمل من حضور الأشياء في موضعها الذي خُلقت عليه. ولذا فقد شعر بغبطة وانسجام هائلين وهو يأمر السعاة بإعادة الحجرة لسابق عهدها متجاهلا حيرتهم ونظراتهم المرتابة.
غادر الحجرة راضيا مرضيا ريثما يعيد السعاة الأشياء كما كانت عليه قبل نزوته المفاجئة، كان خروجه المفاجئ إلي الممر الذي يفصل حجرته عن حجرة الموظفين مدهشا، يشبه الضغط علي زر تثبيت الصورة في ريموت الفيديو، يبدو أن الموظفين كانوا يتصايحون كعادتهم في غياب الرقيب، ولم تكن معرفة فيما كانوا يتصايحون أمرا صعبا، أخذ في إحصاء الاحتمالات الممكنة لهذا التصايح من واقع خبرته معهم كزميل سابق، لم يجدها كثيرة، رغم أنها كانت تستغرق جل وقتهم، كانوا يندفعون بالضحك والصياح مخلفين ضجة عظيمة دونما انشغال بأسبابها، والتي اكتشف لمجرد أنه أصبح عينا خارج الحجرة عينا تراقب عبر الجدار الزجاجي أن أسبابها لم تكن كثيرة، وهي علي قلتها كانت تقريبا تتعلق بأزيز البراد الكهربي الذي يعمل مرة ومرات كثيرة لا يعمل، بدليل أنه بمجرد خروجه إلي الممر توقف الموظفون عن صياحهم، بينما وقف كامل في منتصف الحجرة حاملا البراد في يده، والذي لولا الجدار الزجاجي لأمكنه الآن سماع أزيزه الذي يشبه... وكأن حجرا أصاب لوحا زجاجيا، انفرطت روحه علي البلاطات الباهتة في الممر، لماذا توقف الموظفون عن صياحهم بمجرد خروجه؟ ولماذا يحمل كامل البراد في يديه الطويلتين كممثل فوق مسرح خال إلا منه؟ ولماذا ارتسمت علي وجهه هذه النظرة المذعورة؟ هل كان لتصايحهم علاقة بالبراد وأزيزه أم أن مصادفة حمقاء شاءت أن تكدر حظه الذي لم يكن حسنا حتي الآن. فكر في استدعاء كامل فورا، ومن ثم تحذيره من مضار ما يثيره بين الموظفين من فوضي، وفكر أيضا أن يُخيّره بين البقاء في وظيفته وبين الحفاظ علي تمتعه بروح مرحة، بل في تخييره بين الموظفين وبين براد الشاي، غير أنه رضي في النهاية بلملمة ما تبعثر من روحه علي أرضية الممر، متجنبا أي صراع قد يُدفع إليه، خاصة في بداية عهده بالمنصب. ورغم ذلك قرر علي الأقل ألا ينسحب من المعركة. ظل واقفا أمام الجميع مصوبا خلل الجدار الزجاجي نظرة تحدٍ حسد نفسه علي الطريقة التي حصل بها عليها، وما هي إلا لحظات حتي عاد للحجرة نبضها، ولكنه ليس نبضها الحي الذي كانت عليه، بل مجرد نبض كاف لإبقائها وإبقاء موظفيها أحياء، عاد كامل إلي مكانه كممثل يغادر مسرحه بعد أن انهال عليه جمهوره بالشتائم. ومن ثم فقد عَدّ ذلك انتصارا ساحقا في أولي جولاته كرئيس قسم جديد.
عاد إلي حجرته مزهوا بنصره الكبير، مستمتعا جدا بثبات الموظفين في حجرتهم، أشعره ذلك بالمدي الذي صاروا يخشونه به، وأكسبه ذلك شعورا هائلا ومريحا بأن الأمور مُسيطر عليها إلي أقصي حد. دعّم من شعوره عودة الأشياء لسابق عهدها في الحجرة، فقد عاد المكتب إلي مكانه بالضبط، ولم تعد الرقعة الباهتة من الموكيت ظاهرة، شعر بأن كل ما اقترف من سيئات وكل ما سوف يقترف من جرائم قد أخفي وبدقة تحت ثقل هذا المكتب الطويل العريض. استعاد هدوءه وثقته بنفسه حين جلس علي الكرسي الوثير واطمأن إلي أن زر الجرس صار في متناول يده. يمكنه الآن أن يستدعي الساعي وقتما يريد، وبه الساعي يمكنه استدعاء من شاء من الموظفين والحديث إليه بينما يجلس علي كرسيه الوثير المحتمي خلف المكتب الكبير. ولأول مرة يشعر بجمال وعظمة هذا المكتب، شعر بأن الوقت كان يعوزه للتقدير الصحيح لهذا المكتب، وأن وقتا آخر قد يعوزه لتقدير وجوده في هذه الحجرة كأهم حدث جري له في حياته كلها، ولكن لا وقت يعوزه الآن لمعرفة ما يعني له بقاؤه لفترة في هذه الحجرة كرئيس للقسم، بل والبقاء لفترة طالت أو قصرت كرئيس جديد للقسم، ولذا فقد فكر في أن يبدأ في صبغ شعره فور عودته للبيت، ذلك أن ظهوره بمظهر الرجل العجوز قد يشي بأنه رجل يستعد للتقاعد والتعامل معه من هذا المنطلق سوف يُفقده نصف هيبته، أما ظهوره بمظهر شاب سوف يُبقي علي صورته كرئيس جديد للقسم، ومن ثم الإيحاء للجميع بأن سنوات كثيرة سوف تمر قبل أن يتحول من رئيس قسم جديد إلي رئيس قسم قديم.
الذين يعرفونه جيدا سوف يقسمون أن هذا هو القرار الأسرع في مسيرة حياته المهنية والحياتية الهادئة والخالية من القرارات السريعة. لم تمض غير لحظات حتي اتخذ ثاني أسرع قرار في حياته.. استرخي في مقعده الوثير وضغط الزر وحين أتي الساعي قال له بينما يُقلب في ملف أمامه مُدعيا عدم أهمية ما سوف يقوله.. إنده لي الأستاذ كامل.. ثم أردف بثقة.. بسرعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.