لم يكن صاحبنا غريبًا على العاصمة الفرنسية باريس، فقد عاش فيها مثلما عاش فيها على مدى سبع سنوات متصلة قضاها طالبًا يدرس فى جامعاتها ومعاهدها وظل وفيًا لزيارتها على الدوام. صحيح أنه كان عقب كل زيارة يعود محملاً أو مثقلاً بهذا الجانب أو ذاك من ذكريات سنوات خلت إلا أن زيارته الأخيرة لها بدت مختلفة كثيرًا عن سابقاتها. فلم تكتف الأقدار بأن تضع فى طريقه، مثلما اعتادت من قبل، ما يستثير فيه هذا الجانب أو ذاك من ذكرياته المختزنة، وإنما أصرت على تذكيره هذه المرة بقصته كلها، بل بأن تضيف إلى قلبه المثقل همًا على هم!. جاءت زيارة صاحبنا لمدينته المفضلة هذه المرة استجابة لدعوة وجهتها منظمة اليونسكو للمشاركة فى «اجتماع خبراء» استهدف وضع إطار عام لسياسة ثقافية جديدة تقوم على احترام مبادئ التنوع الثقافى والحوار بين الأمم والشعوب، وكان أحد من كلفتهم بإعداد ورقة بحثية ضمن الأوراق الخلفية لهذا الاجتماع. ولأن اليونسكو اعتادت فى مثل هذه الأحوال أن ترسل للمشاركة قائمة بأسماء وعناوين الفنادق القريبة من مكان الاجتماع، تاركة لكل مدعو أن يختار منها ما يناسبه، فقد وقع اختيار صاحبنا على الفندق الأقرب. لكن ما إن وصل إليه حتى اكتشف أن الحجز تم خطأ لليلة واحدة ومن ثم تعين عليه أن يبحث لنفسه عن مكان آخر يقضى فيه الليالى الخمس التالية. وحين أعياه البحث دون جدوى عن غرفة خالية فى أى من الفنادق القريبة خطر له أن يذهب إلى المدينة الجامعية التى يعرفها جيدًا منذ سنوات الدراسة. فرغم بعدها النسبى عن مكان انعقاد المؤتمر فإنها تعتبر أكثر رحابة من فنادق باريس الضيقة والباهظة الثمن. غير أنه تذكر فجأة أن اليوم «الأحد»، وأن عليه أن ينتظر إلى صبيحة اليوم التالى، وقد كان. لذا شعر بسعادة بالغة حين حالفه الحظ وعثر على غرفة فسيحة مزودة بتليفون خاص وبخدمة الإنترنت فى مكان جميل كان قد قضى فيه السنوات الثلاث الأولى من تواجده فى باريس. وهكذا ترك حقيبته فى مدخل الغرفة وانصرف على عجل ليلحق بالجلسة الافتتاحية! كانت اليونسكو قد اعتادت أن تعقد أنشطتها فى مقرها المعروف بالحى الخامس عشر فى باريس، إلا أن تزامن موعد عقد الاجتماع مع مؤتمر آخر ضخم عن التعليم فرض تغيير مكان انعقاده، حيث نقل إلى المعهد الدولى لتخطيط التعليم فى الحى السادس عشر. ولأنه تعين على صاحبنا قطع الطريق من محطة المترو حتى مقر المعهد سيراً على الأقدام فقد وقعت عيناه على يافطة تحمل اسم شارع صغير كان من الطبيعى أن يستوقفه على الفور، وما إن وجه بصره بامتداده حتى ظهرت بوضوح معالم منزل بدا له أنه يعرفه جيداً. وما هى إلا لحظات حتى تأكد له أنه البيت ذاته الذى دخله لأول مرة منذ أربعين عاماً كضيف على الأسرة الفرنسية التى تقطنه قبل أن يصبح واحداً من أفرادها بعد ذلك بأربع سنوات. وحين واصل السير تراءت له بعد أمتار بلدية الحى تعرف من خلالها على القاعة ذاتها التى عقد فيها قرانه. ولأن الاجتماع الذى حضر خصيصاً للمشاركة فيه كان على وشك أن يبدأ، فلم يكن أمام صاحبنا سوى مواصلة السير مرجئاً طوفان الذكريات الذى بدأ نهره يفيض!. أما فى طريق العودة فلم يكن هناك حائل يمكنه أن يعوق تدفق شلال الذكريات. وحين تركها تسيل تذكر صاحبنا أنه دلف لأول مرة إلى البيت الذى يقف أمامه فى أحد أيام شهر أغسطس من عام 1970 بصحبة الفتاة التى أصبحت فيما بعد شريكة حياته ثم أماً لأولاده قبل أن يعثر، بعد أيام من استضافة كريمة، على غرفة متواضعة فى مكان قريب لم تطل إقامته فيها سوى بضعة أسابيع انتقل بعدها للحياة فى المدينة الجامعية بالحى الرابع عشر عقب الانتهاء من إجراءات قيده كطالب منتظم فى كلية الحقوق بجامعة السوربون. ولأنه لم يكن من بين المحظوظين الذين أتيح لهم أن يتعلموا على نفقة الدولة، فقد كان عليه أن يعثر لنفسه على عمل يعينه على مواصلة دراسته. وتشاء الأقدار أن تكون منظمة اليونسكو هى المكان الذى عثر فيه، بمساعدة بلدياته الدكتور سعيد ذو الفقار، الذى كان يعمل موظفاً دولياً، على أول عمل مؤقت تقلب بعده على أعمال مؤقتة أخرى كثيرة إلى أن أنهى دراسة الماجستير عام 1973، وأصبح مؤهلاً للحصول على منحة فرنسية. الأغرب من ذلك أن أستاذه المشرف اقترح عليه من تلقاء نفسه أن يكتب رسالته للدكتوراه فى موضوع يتعلق باليونسكو أيضا، مما اضطره للذهاب يومياً إلى مقر اليونسكو، وعلى مدى ثلاث سنوات كاملة، للبحث فى أرشيفها عن المادة العلمية اللازمة لدراسته. هكذا كتب على صاحبنا أن ترتبط حياته فى فرنسا سكنياً بالمدينة الجامعية، وبحثياً باليونسكو، وعاطفياً بتلك الأسرة الفرنسية التى استضافته عندها خلال الأيام الأولى لإقامته. وها هو يعود اليوم فى زيارة جديدة إلى باريس مقيماً فى مدينتها الجامعية ومشاركاً فى اجتماع لليونسكو يعقد فى مكان ملاصق تقريباً للبيت الذى استضافه قبل أن يصبح واحداً من أفراد أسرته، فيا لها من مصادفة!. لم تكن الأسرة التى ارتبط بها صاحبنا فى مرحلة مهمة من حياته تقليدية من نواحٍ كثيرة حيث كانت تتكون وقتها من عشرة أفراد: الأب والأم ووالدتها «الجدة» وأطفالهما السبعة «أربعة أولاد وثلاث بنات»، وتقيم فى شقة كبيرة من تسع غرف. ولأن الأم كاثوليكية متدينة فقد كانت لها نظرتها الخاصة للحمل والإنجاب، باعتبارهما هبة من الخالق لا يجوز لأحد أن يتدخل فى مشيئته، وقررت أن تتفرغ بالكامل لتربية أولادها رغم حصولها على أعلى شهادة فى الآداب. ولأنه كان بإمكان الأب، الذى كان يعمل موظفاً كبيراً فى شركة «توتال» الفرنسية، أن يعول أسرة بهذا الحجم الكبير، فلم تكن هناك حاجة ماسة لعمل الأم. ولم يكن شىء من هذا كله طبيعياً أو عادياً فى الأسر الفرنسية. وكلما تذكر صاحبنا، وهو الابن الوحيد لفلاح مصرى بسيط ينتمى لأسرة متوسطة الحال ولم يتعلم الفرنسية قط قبل وصوله إلى باريس، قوة العلاقة التى ربطت بينه وبين هذه الأسرة، واستمرت على العهد ذاته من الوفاء والإخلاص حتى بعد أن تفرقت السبل مع ابنتها، تعجب من أمر نفسه وتساءل عن حكمة الأقدار التى وضعتهما معاً على هذا الطريق. فى شريط ذكرياته عن تلك الأسرة الرائعة يتذكر صاحبنا أن الجدة، وكان عمرها قد تجاوز الثمانين عاماً هى التى رحلت أولاً، ولكن بعد أن رأت عدداً من أحفادها يتزوجون وينجبون. وحين أصبح البيت كبيراً على أسرة تزوج أبناؤها تباعاً قررت الانتقال إلى بيت أصغر فى نفس الحى. بعد سنوات رحل الأب، الذى ظل حتى آخر حياته يصر على مرافقة صاحبنا بنفسه إلى المطار فى كل مرة يأتى فيها لزيارة باريس، ثم وبعده بشهور قليلة رحلت الأم التى لم يكن لها نظير فى صفاء القلب ونقاوته. وحين تذكر صاحبنا أن شريكة حياته نفسها رحلت منذ حوالى عامين بعد معاناة طويلة مع المرض اللعين، دمعت عيناه ولم يخف شعوره بالأسى إلا حين تذكر أنه حضر خصيصاً لهذه المناسبة وشارك فى جنازتها، وأمضى الليلة الحزينة مع أولاده وأحفاده بين تلك الأسرة الكبيرة، التى أصبحت أقرب إلى القبيلة، دون أن يشعر بغربة أو باغتراب. حين انتهى اجتماع اليونسكو الذى تواصلت مداولاته على مدى ثلاثة أيام كان على صاحبنا أن يبحث عن صديق قديم يعرف أنه مريض، لكنه لم يتمكن من زيارته بعد. لذا شعر بسعادة كبيرة حين عثر على الدكتور محمد السيد سعيد وجلسا لساعات يتحاوران كما اعتادا كلما التقيا معا. وعندما صافحه مغادراً باب غرفته تملكه الأسى وتمنى لو كان بوسعه أن يفعل شيئاً من أجل هذا الإنسان الرائع الذى تجمع ملامحه بين وهج العقل وصفاء القلب. ولحسن الحظ، لم تستطع وحشية المرض اللعين أن تطمس تلك السكينة والاطمئنان التى اتسمت بها دوماً ملامح هذا الإنسان النبيل. حين ابتعد صاحبنا عن المستشفى الذى يقيم به صديقه حاول أن يتذكر ملابسات العلاقة الحميمة التى ربطته بهذا الإنسان الجميل، ولم يستطع أن يخفى دهشته حين تبين له مرة أخرى أن للأمر صلة ما باليونسكو!. فقد تذكر أنه التقى به لأول مرة منذ حوالى ربع قرن فى الشعبة القومية لليونسكو بالدقى، التى عمل بها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل منها إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. حين أفاق صاحبنا من شروده راح يتساءل عما إذا كان من الحكمة أن يعود إلى زيارة مدينة كانت فيما مضى تشع بهجة وضياء، لكن لم يعد لها الآن سوى طعم الشجن وأصبحت تفوح منها رائحة الموت!، وستظل الحياة تمضى رغم كل شىء!.