يوجد كاتب يكتب الحكاية فيطرب لها القارئ ثم تتوه في زحمة الحياة، وهناك من يكتب إنسانية الحكاية، فيطرب قارئها ولا ينساها، والواقع أنني لم أقرأ لكاتب يبرع في الغوص داخل الأعماق الإنسانية مثلما كان إبراهيم أصلان -رحمه الله- يفعل، فكان ينسج عبر أعماله المختلفة شخصيات من الواقع المصري، يحكي عنها، فتجد أمثالها ممن يحيطون حولك في كل مكان، وبقلمه الوثاب يسرد مواقف عديدة بسلاسة وبساطة شديدة دون تعقيد، وبلغة يتميز بها وحده، مغرقة في الإنسانية، والعلاقات بين البشر. صدمنا رحيله بغتة؛ لكن الكاتب موته غياب جسدي، وبقاؤه بأعماله المختلفة، لذا سنحاول معكم في "بص وطل" أن نتحدث عن أربعة من أعمال الكاتب الكبير، نلقي عليها الضوء كذكرى لمن قرأها ودعوة لمن لم يقرأها بالسعي إليها، فهي وجبات أدبية شهية لأديب حفر اسمه في وجدان الثقافة المصرية المعاصرة. "وردية ليل".. تحكي عن أصلان عامل التلغراف "جبال الكحل.. تفنيها المراود" بهذه الحكمة يبدأ أصلان روايته البديعة "وردية ليل"، تلك الرواية القصيرة التي يتبع فيها نمط الحكايات المتتالية عبر بطلها سليمان عامل التلغراف، وعندما تعرف أن أصلان قد شغل هذا المنصب في مقتبل حياته؛ تعرف أنه يحكي كثيرا مما مر به في حياته. ذكّرني هذا العمل ب"البوسطجي" ليحيى حقي.. فسليمان في مكان عمله، يتعرف على عشرات من الأشخاص المعبئين بحكاياتهم الخاصة، هؤلاء الأشخاص "العاديين" ومواقفهم التي تبدو لوهلة مكررة؛ لكن كاتبنا يبدع في صناعة مشاعرهم الخاصة بصورة تدهشك مع حوار على ألسنتهم غاية في البساطة. فمثلا وجود حادثة بسيطة مثل كوب الشاي الساخن الذي يمسك به البطل بصعوبة وينسكب على أصابعه؛ بسبب ارتباكه الناتج عن إحساسه بزملائه السائرين خلفه.. موقف عابر يصوغ منه قصته المتفردة، كما يتناول مواقف على هذا المنوال تدور من حوله، لا سيما وجوده في الوردية الليلة، وكيف أنه مثلا يوم إجازته الجمعة ينزل السوق، ويرغب في شراء تحفة يقتنيها، ويشعر أن البائع قد خدعه.. رواية قصيرة؛ لكنها لا تهمل حركة، ولا رائحة، ولا خلفية؛ فيرسم بها لوحة كاملة لذلك البطل سليمان وما يلاقيه في عمله بوردية الليل. "حجرتان وصالة".. عصارة الخبرة آخر أعمال الراحل أصدره في معرض الكتاب 2010، وحوى بين دفتيه 28 نصا، شكلت مقاطع أشبه بصور فوتوغرافية يلتقطها مصور ماهر لخليل الذي وصل للشيخوخة وزوجته إحسان، الكتاب من الغلاف تشعر باختلافه؛ إذ يلفت النظر إلى الأشياء البسيطة المهمة في حياتنا: صفحة الوفيات، علبة الثقاب، غطاء زجاجة المياه الغازية الملقى على الجريدة. وعبر هذه المتتالية المنزلية نجد المنزل ينجلي في أبهى حلة؛ فالزوج خليل الذي تقاعد يستيقظ ويترك زوجته نائمة، ويخرج إلى الصالة واضعا الروب الصوف على كتفيه ويتحرك هنا وهناك؛ وكأنه يتفقد المكاتب والأجهزة وعبد الفتاح والدوشة التي كانت تصاحبه في جو العمل، ثم نجده -نظرا لحالة المعاش التي وصل إليها- يهتم بتفاصيل دقيقة؛ مثل: نسيان صوت صديق قديم، والجدل مع زوجته على أمور تافهة مثل تدميس الفول بكبشة من الأرز أم العدس الأصفر، أو كسر الطبق القيشاني أبو ورد، ورفضه الاعتراف بمعرفة أي شيء عن الأمر، كل ذلك يجيء بإنسانية بالغة وبساطة مبهرة، وكما تجيء المشاهد ببساطة؛ يظهر الموت بنفس البساطة، وتموت الزوجة والرفيقة بعد أن تقول: "حد يرد على التليفون يا ولاد"، "ونامت على جنبها الأيمن ولم تقم بعد ذلك أبدا".. ونجده يقول عن موقف العزاء: "كان يروي الحكاية كلها لمن يجلس إلى جواره أو يربت على كتفه معزيا، ثم يلتفت إليه بعينين دامعتين، ويبتسم". ويتلخص الأمر في تلك الدمعة وهذه الابتسامة، ففي مزج لا يقدر عليه سواه؛ يجمع بين قسوة اجترار الذكريات وخفة ظل الحكايات. "حكايات من فضل الله عثمان".. شخصيات من قلب المجتمع "لا يغير ثيابه لأنه أصبح على المعاش".. هذه جملة داخل المجموعة توحي لك بمقدار الإغراق في التفاصيل الحياتية والنفاذ إليها بسمته التي برع فيها؛ فأصلان تميز في أعماله المختلفة بإلقاء الجملة التي تراها في ظاهرها عادية؛ لكن باطنها يحمل عمقا كبيرا. "فضل الله عثمان" بصورة أو بأخرى هي شارعك أو حارتك أو شارع تقطنه أنت أو أحد معارفك، فالقصص وتفاصيل حتى طريقة الملابس والحوار موجودة من حولنا، وهنا تكمن صبغة أصلان الإنسانية. المجموعة ذكّرتني بحجرتين وصالة؛ لكن هنا "فضل الله عثمان" كان هو المحور الذي عبره صُنعت القصص، هناك في المجموعة قصص مثل: "مونديال"، و"مشهد جانبي"، و"خيط"، و"طرف من خبر العائلة" تدور في فلك العلاقات البشرية، وكيف يتصرف الرجل مع زوجته، ومع جيرانه، وفي أحدهم نجد كيف تطلب أم من ابنها أن يخرج من جلباب جثة أبيه الذي يرتديه، ومحفظته الخاصة فيخرجها ب"خيط"، في مشهد غاية في التأثر والإحساس بمدى الفقر المدقع الذي تصل إلى شريحة كبيرة من البشر. في نهاية المجموعة القصيرة ثلاث قصص حملت رمزية عالية، وخيالا خاصا بالكاتب دمجه بالواقع بطريقة متقنة، مثبتا أن الحكاية ليست فقط قصة تُسرد؛ بل قد تكون حكاية تستعرض الواقع وتحاول تغييره. "خلوة الغلبان".. السيرة الذاتية على طريقة أصلان لا بد لأي كاتب كبير أن يكتب سيرته الذاتية، ويؤرخ بها لمواقفه الشخصية؛ لكن أصلان فعل ذلك على طريقته الخاصة في كتابه "خلوة الغلبان" الذي بدا وكأنه عرفان أو امتنان بالجميل لأشخاص وأماكن أثّروا في حياة الراحل الكبير. هنا ترى أصلان كأنه جالس على "الدكة"، ويحكي إليك كصديق قديم دون اصطناع عن مواقف عديدة مر بها في حياته بطريقة قصصية ممتعة، هنا سوف تقابل يحيى الطاهر عبد الله، وتعرف حجم الفقدان الذي داخل الكاتب بموت صديقه مبكرا، وتتعرف على عباس العقاد الذي قابله عابرا وخشي الحديث معه، ثم يتناول نجيب محفوظ وكيف استقبل هو وأهل حيه في الكيت كات خبر فوزه بنوبل -والكيت كات كانت حاضرة حيث استحضر منها روايته الأثيرة "مالك الحزين"- ثم يتعرض لبدايته القصصية وكيف لاقى بعض الجفاء؛ فذهب للأستاذ يحيى حقي ليشكو إليه، فعلمه حقي درسا وعاه بقية حياته؛ إذ أخبره قائلا: "شوف يا أصلان من ألف فقد استهدف"، ونجده لا يغفل بعض المواقف الطريفة التي لاقاها في وظيفته كصحفي؛ فعندما مات نزار قباني واتصل بماركيز يطلب رأيه في الفجيعة، وجد ماركيز لا يعرف نزار أصلا، وبلغة رصينة ونافذة يتكلم عن علاقته بحفلات التوقيع خاصة في الخارج، وكيف يصيبه الخجل الشديد من انتظاره للقراء من أجل التوقيع، ولا ينسى صديقه الأقرب الكاتب السكندري محمد حافظ رجب؛ فيكتب فصلا كبيرا وفاء له. عنوان الكتاب "خلوة الغلبان"، جاء في الأساس كوفاء لرجل اسمه جاك حسون قابله بالصدفة في زيارة أوروبية، ودعاه حسون إلى مأدبة؛ لكن منعت ظروف السفر حضور أصلان تلك المأدبة، ولم يسعه الاعتذار، وبعد أيام وجد نعي جاك حسون في الجريدة، وأنه من بلدة اسمها "خلوة الغلبان"؛ فاختار العنوان تقديرا له. رحم الله أديبنا الوفي، وخلّد سيرته، وعطّر بالحديث حكاياته الشجية.