"هل سمعت ما يرددونه؟!....." همس (أشرف) بالعبارة، في أذن (جو)، وهما يجلسان في مقهى شهير، في سوق المدينة؛ فسأله (جو) في توتر لم يفارقه بعد: - وما الذي يرددَّونه؟! مال (أشرف) نحوه أكثر، وخفت المزيد من صوته، وهو يهمس: -طائرة مقاتلة سقطت صباح اليوم، بالقرب من (الرحاب). حدَّق (جو) في وجهه، بنظرة خاوية، قبل أن يرددَّ: - مقاتلة: أومأ (أشرف) برأسه تأكيداً، وقال في حماس: - كانت دورية نمطية، ثم أصيبت مقاتلة منها بعطب مفاجئ، فهوت. ثم تراجع، متسائلاً في اهتمام: - ألم تسمع دويّ سقوطها؟! التقط (جو) نفساً عميقاً، قبل أن يقول: في لهجة شابتها العصبية: - بالتأكيد. ثم استطرد في سرعة: - ومن أدراك أنها مقاتلة؟! هزَّ (أشرف) كتفيه، وقال في ثقة: - هذا أمر واضح....
أراد (جو) أن يصرخ في وجهه بأنه أحمق، ولا يعلم شيئاً عما حدث؛ إلا أن هذا كان سيستلزم منه وصف ما رآه في الفجر، وما يستتبعه هذا من سخرية (أشرف) والباقين منه؛ فاكتفى بأن يغمغم مكررَّاً: - بالتأكيد. ابتسم (أشرف)، وكأنما حققَّ انتصاراً، وراح يصف في حماس موقفاً لم يشهده، ويبالغ في وصف ما فعلته القوات الجوية؛ لانتشال المقاتلة، وما أحاطت به المنطقة كلها من إجراءات أمنية مشددَّة، بلغت حد منع السيارات من السير، ومنع المارة من المرور، بالإضافة إلى عدد السيارات الكبير، الذي وصل إلى المنطقة، وبينه سيارة هائلة، تكفي لحمل مقاتلة كاملة على متنها، كما امتلأ المكان بضباط القوات الجوية، وضباط الجيش، وحتى بعدد كبير من الرجال، الذين يرتدون ثياباً مدنية، ويخفون وجوههم بمناظير شمسية داكنة، و.....
ولم يسمع (جو) نصف حوار (أشرف) هذا.... كان ذهنه منشغلاً طوال الوقت بالتفكير فيما حدث فعلياً.... لقد شاهد بنفسه ذلك الطبق الطائر..... شاهده، وشاهد المقاتلات تطارده..... ثم دوى الانفجار..... وحدث ما وصفه (أشرف).... فما الذي يمكن أن يعنيه هذا، سوى أمر واحد..... لقد سقط ذلك الطبق الطائر، كما يحدث في أفلام الخيال العلمي، التي لم ترق إليه يوماً.... سقط، وأحاطته القوات الجوية بالسرية التامة، وطوَّقت المنطقة كلها بنطاق أمني قوي، حتى لا يتسرب الخبر.... وأولئك الذين يرتدون الثياب المدنية، هم من رجال المخابرات حتماً....
أما تلك السيارة هائلة الحجم؛ فقد حملت ذلك الطبق الطائر على متنها، وذهبت به إلى مكان ما.... ولسبب ما، شعر بشيء من الغضب في أعماقه.....
لماذا تخفي الحكومات دوماً مثل هذه الأمور؟!.. لماذا ترفض أن تعلم شعوبها بوجود مخلوقات غيرها، في هذا الكون الفسيح؟!.... لماذا؟!...
تضاعف غضبه؛ ولكن من نفسه هذه المرة، وليس من الموقف نفسه.... ما الذي أصابه!!.... لماذا يفكَّر بأسلوب لم يؤمن به قط من قبل؟!... مخلوقات أخرى في الكون بخلاف البشر؟!... وقادرة على الوصول إلينا؟!...
يا للسخافة!... " (أشرف).... هل تؤمن بوجود كائنات غيرنا في الكون؟!...." غضب أكثر، عندما انطلق السؤال من بين شفتيه، دون أن يدري، وبخاصة عندما التفت إليه أشرف في دهشة، قائلاً: - كائنات ماذا؟!... ثم تضاعف ذلك الغضب، عندما انفجر (أشرف) ضاحكاً عقب سؤاله، وهو يقول: - من أين جاءتك هذه الفكرة؟!.. انعقد حاجبا (جو) في توتر، وأشاح بوجهه، وهو يغمغم في عصبية: - لقد شاهدت فيلماً، و.... قاطعه (أشرف) بدهشة مستنكرة: - فيلم؟!.. ثم عاد يطلق ضحكة أكثر، قبل أن يضيف: - حاول ألا تشاهد هذه النوعية من الأفلام الهزلية – إنها تستخف بعقول المشاهدين. وأشار إلى رأسه بسبابته، مستطرداً: - أعقلها يا رجل... كيف يمكن أن تكون هناك مخلوقات غيرنا، في هذا الكون؟!.... كيف يمكن أن يخلق الله (سبحانه وتعالى) غيرنا؟. قال (جو) في عصبية: - الخالق يمكنه أن يخلق ملايين غيرنا، في كل أنحاء الكون... لقد خلق في البحار والمحيطات وحدها آلاف، بل عشرات الألوف من المخلوقات، من الكائنات الدقيقة، وحتى الحيتان الهائلة، والحبَّار العملاق. سأله (أشرف) في تحد: - وأين هم إذن؟! أجابه في سرعة: - وأين كان الهنود الحمر، قبل أن يصل إليهم (كولومبوس) قال (أشرف) في دهشة: - من (كولومبوس)؟! أجابه في عنف: أكشن: القادم (2).. الشائعة - (كريستوفر كولومبوس)، ذلك البحَّار الإيطالي المولد، البرتغالي الجنسية، الذي كشف قارة (أمريكا)..... أيامها أيضاً كانوا يصرَّون على أنه لا يوجد بشر خلف المحيط.
بدت دهشة أكثر على (أشرف)، وهو يغمغم: - رباه !.... أنت مثقف بحق. ثم عاد يسأله متحدياً: - ولكن لو أن هناك مخلوقات أخرى في الكون؛ فلماذا لم نصل إليهم نحن. أجابه في تحد أكبر: - ولماذا لم يصل الهنود الحمر إلى (أوروبا)؟! تراجع (أشرف)، وبدا وكأنه يعمل السؤال في رأسه، إلا أنه لم يلبث أن هزَّ هذا الرأس، وكأنما ينفض عنه تلك الأفكار والتساؤلات، قبل أن يقول في حدة: - أي عبث نناقشه؟!.. التقط (جو) نفساً عميقاً، انتهى بزفرة استعاد معها عصبيته، قبل أن يغمغم: - صدقت... هذا عبث بالفعل. كان العبث بالنسبة إليه أن يناقش أمراً كهذا، مع شخص لا يؤمن بأية أمور عقلانية، وليس مستعداً لتغيير أفكاره ومعتقداته، مهما بدت أمامه أدلة أو براهين... شخص عنيد..... وأحمق... نهض على نحو متوتر، وقال بنفس العصبية: - سأنصرف. سأله (أشرف) في دهشة: - في هذا الوقت المبكر؟!.. أجابه، في شيء من الحدة: - أشعر ببعض التعب. لم ينتظر سماع إجابة (أشرف)؛ ولكنه ابتعد بخطوات مسرعة، وهو يشعر بتوتر بالغ في أعمق أعماقه.... ما حاول إقناع (أشرف) به، هو في الواقع ما يحاول إقناع نفسه هو به...... أن تكون هناك كائنات عاقلة غيرنا، في هذا الكون الشاسع.....
أمر يبدو مخيفاً، إذا ما أمعنت التفكير فيه..... مخلوقات غيرنا.... تصل إلينا..... وتطاردها مقاتلاتنا.... أي رعب هذا؟!..
وجود مخلوقات عاقلة، قادرة على الوصول إلينا، أمر مخيف بحق؛ فهذا يعني أنها أقوى منا، وأنها لو أرادت، لكانت قادرة على احتلالنا....
اتسعت عيناه في رعب، عندما جالت بخاطره فكرة الاحتلال، وبحركة غريزية، راح يتلفَّت حوله، وكأنما يتوقع أن تهاجمه مخلوقات فضائية، في أية لحظة، وبأسلوب غير أرضي....
استعاد ذهنه عدة مشاهد، من أفلام سينمائية خيالية، وقع بصره عليها مصادفة.... مخلوقات مخيفة، وقدرات خارقة، وأحداث رهيبة.... ولأوَّل مرة، منذ أقام بمدينة (الرحاب)، يبدو له هذا السكوت عجيباً ومخيفاً، مع تلك الإضاءة الخافتة.....
كانت هذه الصورة تبدو له قديماً رومانسية، حتى أنه كان يعشق السير وسط الحدائق، تحت هذه الإضاءة الخافتة، مع زوجته (إيناس)..... وكانا يسيران دوماً الهوينا.... أما الآن، فها هو ذا يسرع الخطى؛ لتجاوز هذه المنطقة، والوصول إلى منزله، في أسرع وقت ممكن....
وكمحاولة لتهدئة نفسه، أخرج هاتفه المحمول؛ ليجري اتصالاً مع زوجته.... ولكن هاتفه لم يستجب.... لم يستقبل أية إشارات، وكأنما أصابه عطب ما، أو..... توقَّفت أفكاره دفعة واحدة، واتسعت عيناه في رعب، عندما وقع بصره على ثلاثة أجسام، تقترب منه، وتقترب منه، وزادت سرعة الأجسام الثلاثة.... ثم انقضت عليه..... مباشرة.