مفاجأة في سعر الدولار اليوم في البنوك    مفاجأة عن نهج الرئيس الجديد لتايوان مع بكين    توافد طلاب الشهادة الإعدادية على لجان الشرقية لأداء امتحانة العربي والدين (صور)    محمد سامي ومي عمر يخطفان الأنظار في حفل زفاف شقيقته (صور)    تشكيل الترجي المتوقع لمواجه الأهلي ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    جلسات تحفيزية بفندق الإقامة للاعبي الأهلي قبل مواجهة الترجي    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 18 مايو    الأرصاد تحذر من طقس اليوم وتوجه نصائح لمواجهة ارتفاع الحرارة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 18 مايو    أوما ثورمان وريتشارد جير على السجادة الحمراء في مهرجان كان (صور)    ناقد رياضي: الترجي سيفوز على الأهلي والزمالك سيتوج بالكونفدرالية    أكثر من 142 ألف طالب يؤدون امتحانات الشهادة الإعدادية بالشرقية اليوم    ذوي الهمم| بطاقة الخدمات المتكاملة.. خدماتها «مش كاملة»!    عادل إمام.. تاريخ من التوترات في علاقته بصاحبة الجلالة    زعيم كوريا الشمالية يشرف على اختبار صاروخ جديد: تعزيز الحرب النووية    عاجل - آخر تحديث لسعر الذهب اليوم في مصر.. عيار 21 يسجل 3150 جنيها    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    زيلينسكي: أوكرانيا ليس لديها سوى ربع الوسائل الدفاعية الجوية التي تحتاجها    نوح ومحمد أكثر أسماء المواليد شيوعا في إنجلترا وويلز    لبلبة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: الدنيا دمها ثقيل من غيرك    كاسترو يعلق على ضياع الفوز أمام الهلال    خالد أبو بكر: لو طلع قرار "العدل الدولية" ضد إسرائيل مين هينفذه؟    طبيب حالات حرجة: لا مانع من التبرع بالأعضاء مثل القرنية والكلية وفصوص الكبد    تفاصيل قصف إسرائيلي غير عادي على مخيم جنين: شهيد و8 مصابين    رابط مفعل.. خطوات التقديم لمسابقة ال18 ألف معلم الجديدة وآخر موعد للتسجيل    حلاق الإسماعيلية: كاميرات المراقبة جابت لي حقي    إصابة 3 أشخاص في تصادم دراجة بخارية وعربة كارو بقنا    نصائح طارق يحيى للاعبي الزمالك وجوميز قبل مواجهة نهضة بركان    الأول منذ 8 أعوام.. نهائي مصري في بطولة العالم للإسكواش لمنافسات السيدات    فانتازي يلا كورة.. هل تستمر هدايا ديكلان رايس في الجولة الأخيرة؟    ننشر التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي قضاة مجلس الدولة    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    حماية المستهلك يشن حملات مكبرة على الأسواق والمحال التجارية والمخابز السياحية    لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الخيام جنوبي البلاد    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    عمرو أديب عن الزعيم: «مجاش ولا هيجي زي عادل إمام»    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    مؤسس طب الحالات الحرجة: هجرة الأطباء للخارج أمر مقلق (فيديو)    تعرف على موعد اجازة عيد الاضحى المبارك 2024 وكم باقى على اول ايام العيد    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    حظك اليوم برج العقرب السبت 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "يا ويل حالي"    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    سعر اليورو اليوم مقابل الجنيه المصري في مختلف البنوك    أكثر من 1300 جنيه تراجعا في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 18 مايو 2024    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    حدث بالفن| طلاق جوري بكر وحفل زفاف ريم سامي وفنانة تتعرض للتحرش    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاما علي رحيله
فانون .. في زمن الثورة العربية
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 12 - 2011

المفكر الثوري الذي قضي معظم حياته في الخنادق دفاعا عن حق الشعوب.
فرانز فانون يعود إلي الواجهة في ذكري 50 عاما علي رحيله. ملهما لحركات التحرر من الاستعمار الوطني، وملهماً لحركات مناهضة العولمة الليبرالية رغم الرحيل البعيد يبدو راهنا أكثر من أي وقت مضي، نستعيد هنا بعضا من أفكاره في زمن الثورات العربية.
هوامش حول احتفالية الجزائر
فانون.. الانتصار للإنسان
»انتبه أنت في الجزائر«، ظل هذا النداء يدق في رأسي منذ أول لحظة خطوت خطواتي الأولي في مطار هواري بومدين، رغم أنها ليست المرة الأولي في الجزائر، فهذه هي الزيارة الثالثة للمشاركة في مؤتمر حول المناضل والمفكر فرانز فانون، وكانت الزيارتان السابقتان لأسباب ثقافية عامة، أما هذه المرة فلها حضور خاص، فالمحتفي به شخصية قفز تأثيرها خارج أسوار الأماكن التي عمل وناضل وكافح فيها، إلي كافة أركان العالم،
حياة فانون في حد ذاتها تنطوي علي أبعاد ملحمية مؤثرة، حيث ترك كل هذا التأثير وغادر الدنيا
وهو في السادسة والثلاثين من عمره
وترك تأثيرا عظيما في جميع من احتكوا بإبداعاته الفكرية والسياسية، خاصة من خاضوا حروب تحرير ضد الاستعمار، وعلي وجه الخصوص في قارة افريقيا، وأمريكا اللاتينية، بالاضافة إلي أن حياة فانون في حد ذاتها تنطوي علي أبعاد ملحمية مؤثرة، حيث ترك كل هذا التأثير وغادر الدنيا وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وميلاده كان في العام 1925، ورحيله كان في 6 ديسمبر 1961 متأثرا بمرض سرطان الدم، وقبل أن يغادر الدنيا أوصي أن يكون مدفنه بين شهداء الثورة الجزائرية، ولذلك دفن في ولاية عنابه - علي حدود تونس - ما بين الشهداء الذين رافقهم ورافقوه، رحل بعد أن كتب عدداً من المساهمات الفكرية الرصينة، أشهرها (بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء) عام 1952، وسوسيولوجية ثورة عام 1959، والعام الخامس للثورة الجزائرية عام 1958، وكتابه الأهم (معذبو الأرض)، والذي صدر بعد رحيله عام 1962، وقدم له المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، بمقدمة طويلة وضافية ومفسرة ومشتبكة مع طروحات فانون، بصفته تلميذا وصديقا ورفيقا له، وجاء في مقدمة سارتر: (لقد دل علي الطريق، إنه وهو الناطق بلسان المناضلين، قد طالب باتحاد القارة الافريقية ضد جميع الخلافات وجميع الانقسامات). ويخاطب سارتر أبناء جلدته الأوروبيين قائلا: (إنهم سيستفيدون من قراءة فانون: لسوف يوضح لهم فانون توضيحا كاملا أن هذا العنف الجامح ليس زوبعة سخيفة، ولاهو تيقظ غرائز وحشية، بل ولا هو ثمرة حقد، إنه الانسان نفسه يشكل نفسه تشكيلا جديدا، هذه الحقيقة إننا علمناها ونسيناها، ان تلائم العنف لايستطيع أي لين أن يمحوها، ان العنف وحده يستطيع أن يهدمها)..
ولم تتوقف اتهامات فانون علي المستوي النظري، بل قدم نموذجا حيا علي المستوي السياسي والنضالي، وتطورت أشكال هذا النضال منذ بداياته الأولي، منذ عمليات الطمس التي مارسها الاستعمار الفرنسي علي الشخصية الزنجية، للدرجة التي دفعت فانون للبحث عن الأصول الأفريقية، بعدما كان يجهر بكراهية لونه: (أنت أسود إذن أنت لست بإنسان).. أو (من التمني أن تكون أسود).. فانون حاول مقاومة الاندماج، والتعايش المذل، وليس السلمي، وليس من الطبيعي أن يعيش المستعمر (بفتح العين) مع المستعمر (بكسرها)، لذلك جند فانون نفسه وعلمه ومهنته ونضاله، للبحث عن أساليب مقاومة المستعمَر للمستعمر، ولم يجد مجتمعا يعيش هذه الحالة أفضل من المجتمع الجزائري الذي راح الاستعمار الفرنسي يسحقه ويدمره بكل الوسائل، هنا عملية إلغاء ونفي كاملتان، عملية محو عرض نقية، تخلو من أي رحمة أو انسانية، لذلك كان العنف المتبادل وحشياً، وكان الرد الجزائري علي الفعل الفرنسي مذهلا، وكانت المجزرة التي ذهب فيها 45 ألف شهيد في مايو عام 1942، منطلقا لتبادل العنف المطلق، وكان الفرنسيون طغاة حقيقيين، ووقف مفكروها وكتابها وأدباؤها منددين بالاستعمار الفرنسي، وأصدروا بيانات، ولعل صرخة سارتر في كتابه: (عارنا الذي في الجزائر)، كانت موقظة ومدوية، وكانت كتابات البيركامي كذلك عاملا فاعلا في تنبيه العالم أجمع لما يحدث في الجزائر، وبالطبع كان فانون، وهو أحد الضحايا المتأثرين بالقدم الثقيلة المدمرة، والساحقة، والماحية لهويته، لقد ولد هذا المارتنيكي في جزيرة الانتيل، وتثقف علي يد المستعمر، وعندما شعر بزنوجيته، بدأ رحلته لتأكيد هويته النضالية والمكافحة والمقاتلة، ودرس الطب النفسي في جامعة ليون بفرنسا، وأبدي نزوعا ملحوظا نحو العبقرية، وعندما حصل علي شهادته عين طبيبا في مستشفي بليدة في الجزائر، وتعتبر بليدة إحدي القلاع الرئيسية في مقاومة المستعمر الفرنسي، ولها تاريخ مشهود في الكفاح الوطني، ولذلك وجد فانون نفسه في مكان يذكره ببلاده، ويزكي فيه روح المقاومة الباسلة، وإذ اختلفت بعض الملابسات، لكن الشعبين في (الانتيل والجزائر) يعانيان نفس الأعراض والأمراض، وأدرك فانون أن الاستعمار قادر علي تشويه الطبيعة الانسانية، وتمزيق الروابط القومية، وتفتيت الوحدة الشعبية في أي مكان، مما يعمل علي تأخير الشعوب ومحو هويتها، وتكسير عظامها، وتشتيت أهدافها، ولكن الشعب الجزائري استطاع عبر كفاحه المسلح أن يلتف حول أهداف رئيسية، ويضرب بقوة وفي عنف جسد هذا المستعمر، وانطلقت الشرارات الأولي للثورة الجزائرية، وبدأت الثورة تضع مخططاتها للاقتصاد، مما دفع فانون ليقدم استقالته عام 1957 من رئاسة مستشفي الأمراض العقلية في بليدة في رسالة يوضح فيما وجهة نظره فيما يجري علي أرض الجزائر من جرائم وحشية، يرتكبها الاستعمار في حق الشعب الجزائري، ومنذ ذلك الوقت انضم فانون بكل كيانه للثورة الجزائرية، ورافق المجاهدين في كافة نضالاتهم، وآمن بأن المستعمر لايجد ذاته وهويته وثقافته إلا في مقاومة المستعمر عبر آليات العنف، هذا العنف الضروري واللازم، ولن يجد حريته وحرية أمنه وسيادتها إلا في هذه المقاومة النبيلة، وكان كتابه (معذبو الأرض) هو ثمرة تلك المعاناة الملحمية، يقول فانون في الفصل الأول من كتابه (معذبو الأرض): (سواء أقلنا تحريرا وطنيا، أم نهضة قومية، أم انبعاثا شعبيا، أم اتحادا بين الشعوب، وكيف كانت العناوين المستعملة، والمصطلحات الجديدة، فإن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما، إن محو الاستعمار، علي أي مستوي درسناه، سواء كان مستوي لقاء الأفراد بعضهم ببعض... أم مستوي التشكيل الانساني لحفلات الكوكتيل وأجهزة الشرطة... إنما هو إحلال »نوع« انساني محل »نوع« انساني آخر).. لذلك كانت نظرية العنف الثوري ركيزة أساسية في الفكر الفانوني، هذا العنف القائم علي دعائم انسانية محضة، وقوام هذا العنف هو القتال المنظم، وعلي جميع الجبهات، والأصعدة، وليس في ميادين الحرب فقط، ولذلك كان فانون دارسا وباحثا في كافة أمور المستعمرات عبر تجربته في الجزائر، وفي كتابه سوسولوجية ثورة، يفرد فصلا عميقا عن ظاهرة الحجاب في الجزائر، تحت عنوان (الجزائر تلقي الحجاب).. يقول في مستهله: (تكون خصائص الشباب الفنية وعادات اللباس والزينة أكثر أشكال الأصالة بروزا للعيان، أعني أكثر الأمور التي يمكن في أي مجتمع إدراكها مباشرة.. ذلك أن
نماذج المجتمعات تعرف من خلال اللباس، قبل أي شيء آخر، سواء عن طريق الريبورتاجات والمستندات المصورة أم عن طريق جماعات سينمائية). وسنلاحظ أن فانون يتأمل هذه الظاهرة، وكيف استطاع أن يدرك مضمونها وفحواها في ظل المعركة المسلحة العنيفة بين المستعمِر والمستعمَر علي أرض الواقع.. ولذلك سنجد أن فانون كان سباقا في دراسة أقنعة المجتمع المتعددة، والتي بالضرورة تؤدي إلي اكتشاف روح هذا المجتمع وجوهره وهويته ومعناه.
والذي عاش فترة الستينيات والسبعينيات المصرية سيدرك أن فرانز فانون كان محورا للجدل الثقافي والسياسي، وكانت كتاباته محل تأثير بالغ في المثقفين المصريين، بعد الترجمة التي قام بها سامي الدروبي وجمال الأتاسي لكتاب (معذبو الأرض) وصدر عام 1963 عن دار الطليعة، وكانت الدراسات التي نشرت في مجلة الهلال زادا أساسيا للثقافة المصرية، واعتبره المثقفون المصريون - في ذلك الوقت- أحد المراجع المهمة في تكوين ثقافاتهم ورؤاهم، وكان هذا المؤتمر فرصة للتعبير عن مكنونات المرء حول هذا الرجل ونضاله وتأثيره البالغ في التوجه الثقافي عموما.
كان الافتتاح مهيبا فعلا، وألقيت كلمات بالغة الأثر، بدأها الدكتور سالم حاقي مدير المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ، وأوضح لماذا تقوم الجزائر بهذا الاحتفال بمناسبة مرور خمسين عاما علي رحيل فانون، وكان الحضور كثيفا، وكانت الوزيرة خليدة تومي حاضرة
دوما، وشاركت بمداخلات في معظم الفعاليات، وكان حضورها دون مراسم، ودون ادعاءات لأي خصوصية، بالعكس فالذي يعرف خليدة تومي سيجدها أبسط من أن تكون وزيرة، وكانت المفاجأة بالنسبة لي أنهم رتبوا مشاركتي في الجلسة الأولي، وبعد الافتتاح مباشرة، وهذا ليس تقديرا لشخصي، بقدر ما هو تقدير لمصر ولشعبها ولثورتها، وكانت الجلسة الأولي حاشدة وساحقة، وضمت أوليفييه فاشون ابن الراحل الكبير، ثم بيير شالو أحد رفاق فانون، وليمين بشيش رفيق فانون فرجريدة (المجاهد)، ثم ورقتي التي كان عنوانها: (كيف تلقيت فرانز فانون، وكيف أشعل الثورة فينا)..
تحدث أوليفييه ببساطة شديدة، وعبر عن أن أفكار أبيه مازالت محل جدل حتي الآن، وأنه عندما يراجع سيرة والده فإنه يشعر بالفخر والاعتزاز الشديدين، إنه يتلقاه كأحد مناضلي المستعمرات الانسانية، وإنه زواج بين النضال والعمل المهني والفكر النظري، وأدي مهنته في كافة فروع توجهاته علي نفس الدرجة، وبذات الاخلاص، واستفاض أوليفييه في مصير أفكار والده، وإن لم يدع كبير معرفة بهذا المصير، وإن كان هناك ذوو الاختصاص والشأن، والذين هم أقدر منه في تقدير ذلك. ثم تحدث المجاهدان والرفيقان لفانون عن بعض خصائص في سلوك فانون، ومن خلال مشاركتهما لحياة ونضال فانون، أضفيا بعض الدفء والحميمية علي الجلسة، مثل أن فانون كان يهتم بالبعد النفسي للمناضلين، وكان يتساءل دوما عن شكل حياة المجاهدين، ومحاولة تحسينها حتي يستطيعوا أن يؤدوا واجباتهم علي أكمل وجه، كان البشيشي (وهو وزير سابق) هو المسئول عن الطبعة العربية لجريدة المجاهد، وكان فانون يراجع مقالاته بنفسه، في الطبعة الفرنسية..
بالطبع قدم باحثون كثيرون أوراقا هامة، وأقيمت عدة ورش لدراسة الفكر الفانوني، وكانت ورقة الفلسطيني عادل سمارة من أبرز الأوراق، والتي كان عنوانها: (في حضرة المثقف المشتبك وحرب غوار الثقافة، الثقافة والسلاح قيم استعمالية لاتنتهي).. وأوضح فيها فكرته عن المثقف المشتبك، وليس المثقف العضوي عند جرامش، ويتبين أن سمارة كان منحازا بقوة لمثقف فانون في مواجهة مثقف ادوارد سعيد ومثقف سارتر، ومثقف هربرت ماركيوزي، وغيرهم، وفي حقيقة الأمر أثارت ورقته تساؤلات وملاحظات كثيرة، وكان في الجلسة أوراق أخري للجزائريين شرف الدين شكري (حول الهوية الثالثة مقاربة سوسيو ثقافية بفكر فانون) ، وقراءة أخري لاحمد دليني تحت عنوان: (فرانز فانون الولادة الجزائرية للمثقف ما بعد الكولونيالي).. وكانت الورقة الرابعة لوحيد بن بوعزير وعنوانها: (حضور فرانزفانون في نقد ما بعد الكولونيالية نموذج ادوار سعيد وهومي باب).. ولسعادتي البالغة كنت أترأس هذه الجلسة الهامة، ودارت حوارات ساخنة للدرجة التي كانت الندوة تنذر بالانتهاء، لولا بعض الحسم في ايقافها.
وكان هناك حضور للمجاهدين القدامي بشكل بارز، والمجاهدات الجزائريات أيضا، وبعض هؤلاء المجاهدين كانوا يتصرفون مع المناسبة بنوع من السعادة الغامرة، وهناك قابلت الحاج بوديسي الصافي، وهو يرفل في جلبابه الشعبي، ويحمل ملف صوره وهو في أرقي نضالاته، وهو مع نكروما، وهو مع المجاهدين في الأربعينيات، ومومع هيئة تحرير إحدي المجلات، الحاج بوديس كان أول من اهتم بفكرة التعاونيات، لذلك عينته الحكومة الجزائرية في مستهل ثورتها وزيرا للنقل، كان يتنقل معنا وهو الذي تجاوز الثمانين من عمره، في خفة ونشاط وحيوية رغم مشقة الأمر، وذهب معنا إلي مقبرة الراحل في ولاية الطارف علي حدود تونس، وهناك كانت المراسم عظيمة، وفوجئت بيافطة علي مقبرة فانون تحمل اسم: (ابراهيم فرانز فانون)، وعندما سألت عمن أدخل اسم ابراهيم لم أجد إجابة، وقرأوا علي المقبرة بضع سور من القرآن الكريم، وسمعنا النشيد الوطني للجزائر، كانت المراسم مهيبة وسط طلقات النار، وبين حشود شعبية خفيرة من أهل البلد، وقدمنا أكاليل الزهور العديدة، الوفد الجزائري والوفد الفرنسي، المدهش أن المجاهدين القدامي تواجدوا بشكل كثيف، حيث خاطبوا فانون والشهداء بأن الجزائر مازالت تتذكرهم وتحمل لهم الجميل، وستظل دوما علي خطاهم، وكان المؤثر كبير المجاهدين وهو الحاج الطيبي، والذي حمل جثمان فانون علي يديه من تونس، كان يتحدث من الذاكرة، وهو يستند علي عصاه، وينقل لنا آخر كلمات فانون له، ووصاياه، ورغبته في أن يدفن في مقابر الشهداء.. عندها تذكرت أحمد عرابي وعبدالله النديم ومحمد عبيد وسعد زغلول وغيرهم من الأبطال المصريين الذين لا نقيم لهم مثل هذه الاحتفالات التي تؤجج الروح، وتعيد المعني إلي مكانه..
فصول من مذكرات فانون
كيف تم تهريب الأسلحة من صحراء إفريقيا إلي الجزائر؟
يزيح فانون في هذا الفصل الستار عن أسرار سياسية وعسكرية هامة، أسرار المقاومة والكفاح من أجل التحرر والنصر في نهاية عام 1958، عقد تقوات جيش التحرير الوطني الجزائري للولايات اجتماعا في شمال قسطنطينة.. وبهذه المناسبة، لاحظوا خطر خنق الكفاح المسلح في الداخل تدريجيا، نتيجة للاستعدادات التي اتخذها العدو »مثل اقامة مناطق محرمة، ومعسكرات اعادة تجميع للقوات، بهدف فصل جيش التحرير الوطني عن الشعب«.
وقرروا ارسال الكولونيل عمروش »قائد الولاية الثالثة« إلي تونس لكي يشرح الموقف لحكومة جمهورية الجزائر المؤقتة، ويحدد الوسائل التي يمكن أن تكفل تزويد داخلية الجزائر بالاسلحة والذخائر وكذلك بالمال ولم يصل الكولونيل عمروش إلي تونس ابدا، فقد قتله العدو اثناء تلك الرحلة في منطقة بوسعدة في مارس سنة 1959.
ولمواجهة هذا الموقف، قررت حكومة الجزائر المؤقتة- خلال اجتماعها في خريف عام 1959 - انشاء هيئة اركان حرب.
واذا عزز الجيش الفرنسي مواقعه علي الحدود »مثل انشاء خط شال« فقد أصبح من الصعب تزويد الداخل عن طريق المغرب وتونس.
وفي مارس 1960 تم تعيين فرانز فانون سفيرا في أكرا. ولاحظ فانون خلال اقامته في افريقيا الغربية ان هناك امكانية لتعزيز الموقف بالداخل عن طريق الحدود الجنوبية، أي عن طريق حدود مالي، ولهذا قام ببعض الاتصالات بالمسئولين في مالي، واطلع القواد الجزائريين علي مقترحاته، فقرروا انشاء قاعدة ثالثة في جنوب الصحراء، لتهريب الاسلحة إلي الولايتين الاولي والخامسة.
ولقد كتب قانون اسرار هذه الخطط في مذكراته.. اثناء بعثة التعرف علي المنطقة، واثناء القيام بإقامة تلك القاعدة خلال صيف عام 1960
وقد اضيفت بعض المصطلحات الفنية في شكل ملاحظات سريعة وناقصة يدرك فيها فانون مختلف الحلول التي يمكن الاخذ بها في نطاق التنفيذ العملي البحت.
مذكرات فانون
أن دفع افريقيا إلي الامام، والمشاركة في تنظيمها وفي حشد قواها وراء مباديء ثورية، أي المساهمة في حركة منظمة لقارة بأكملها.. ان ذلك كان بالتحديد هو العمل الذي اخترته لنفسي، وكانت اول قاعدة انطلاق، أول دعامة، هي غينيا، تليها مالي، المستمدة لكل شيء، الصادقة العنيفة، المتماسكة المسلحة، لتكون بمثابة الجسر، فتفتح بذلك آفاقا واسعة، كان لومومبا بخير في الشرق. أما الكونغو الذي يمثل ثاني مجال لتوصيل الأفكار الثورية فقد كان محاطا بطوق رهيب من المتناقضات المقيمة. لقد كان لابد من التريث قبل اقتحام قلاع الاستعمار المسماة انجولا، وموزمبيق، وكينيا، واتحاد جنوب افريقيا.
وعلي الرغم من ذلك كان كل شيء علي ما هو عليه في الكونغو، أن نظام الدفاع الاستعماري - رغم متناقضاته - أحيا الخصائص القديمة، وفتت حمم التحرير، وفي هذه اللحظة، كان لابد من التمسك بالكونغو والتقدم نحو الغرب - لقد كان الموقف واضحا بالنسبة لنا، نحن الجزائريين، لكن المعركة لاتزال صعبة.. صعبة جدا. ولقد كان علينا أن نبرهن بأعمال محددة علي أن القارة الافريقية واحدة، مبتدئين في ذلك بالغرب الافريقي. وبصرف النظر عن اختلاف نوايا القادة عامة، كان من الممكن تحديد نقاط معينة تستطيع أن تلتقي حولها الشعوب، رجالا ونساء، وتتكاتف وتبني سويا. لكن شبح الغرب. والسمات الاوربية كانت موجودة وفعالة في كل مكان. فهناك المناطق الفرنسية، والانجليزية، والاسبانية، والبرتغالية، وهي لاتزال قائمة. أن اوكسفورد تتعارض مع السوربون ولشبونة ضد بروكسل والأسياد والانجليز ضد الأسياد البرتغاليين، والاسترليني ضد الفرنك، والكنيسة الكاثوليكية ضد الكنيسة البروتستانية أو ضد الاسلام. وزيادة علي كل ذلك، كانت الولايات المتحدة تتوغل في كل مكان، وفي طليعتها الدولارات، ورسول يدعي ارمسترونج، والدبلوماسيون السود الامريكان، وأكياس المال، ومبعوثو »صوت أمريكا«.. ولاتنسي المانيا الدائبة علي العمل، أو اسرائيل التي تمزق أرض الصحراء.
عمل شاق. ولكن في كل ركن تمتد إلينا - لحسن الحظ - سواعد، وتستجيب لنا أصوات، وتصافحنا أيد
الثاليوم.. ومومييه
مات مومييه. تقابلنا في مطار اكرا يوم 30 سبتمبر. كان ذاهبا إلي جنيف لاجراء مباحثات هامة جدا. قال لي: في خلال ثلاثة أشهر ستشهد انسحاب الاستعمار انسحابا تاما من الكاميرون.
وفي طرابلس، كان الشباب يجعل أي هبوط أمرا متعذرا. ظلت الطائرة تحلق فوق المطار مدة ثلاث ساعات. كان الطيار مصرا علي الهبوط بأي ثمن، وبرج المراقبة يرفض الاستجابة لطلبه. لكن الطيار، بشجاعة وبدون وعي، كان قد قرر الهبوط بحمولته البالغة عشرات الالوف من الاطنان. وقال لي فليكس: »هؤلاء الاشخاص يقامرون بحياة الناس«.
حقا. لكن، ألم نغامر نحن أيضا بحياتنا؟ ما قيمة عناد هذا الطيار اذا قورنت بمغامرتنا بحياتنا المعرضة دائما للخطر؟ اليوم. مات فليكس. وكان من المفروض أن نلتقي في روما بعد 15 يوما. انه غائب. عند وصولنا اكرا، وقف والده ورائي أتقدم بمفردي، وارتسم حزن كبير علي وجهه بعد يومين جاءت برقية تقول أن فليكس بالمستشفي، وانهم يرتابون في حدوث تسمم له، فقرر كينجي، وكيل اتحاد مناضلي الكاميرون، ومارت مومييه التوجه الي جنيف. وبعد عدة أيام واتانا الخبر: فليكس مومييه قد مات .لم نشعر اطلاقا بهذه الوفاة. اغتيال بلا دماء. لم تكن هناك طلقات أو قنابل. تسمم بالثاليوم. لامعني لذلك. الثاليوم!! كيف نفهم هذا السبب وفاة تجريدية تهزم اكثر الرجال واقعية، واكثرهم حيوية، واكثرهم نشاطا. ان نبرات فليكس كانت دائما عالية، لقد كان عدوانيا، عنيفا، غاضبا، محبا لبلده، كارها للجبناء والعملاء، صارما، جافا، لاينثني. بنزين ثوري داخل ستين كيلوجراما من العضلات والعظام.
وفي المساء، ذهبنا لمواساة الرفاق الكاميرونيين. كان الاب، بوجهه الجامد المتحجر غير المعبر ينصت إلي حديثي عن ابنه. وبالتدريج، تنحت الابوة لتفسح مجالا للمجاهد، فقال لي: نعم ان البرنامج واضح. يجب التمسك بالبرنامج.
كان والد مومييه يذكرني في هذه اللحظة بأهالي الجزائر الذين ينصتون إلي قصص أبنائهم بشيء من البلاهة، ويوجهون الاسئلة من حين إلي آخر، ويطالبون بالتفاصيل الصغيرة ثم يعودون إلي ذلك الصمت الذي يبدو انه يربطهم - كما يعتقدون - بحيث ذهب أبناؤهم ومع ذلك، الحركة موجودة هنا، غدا، وعلي الفور، يجب شن الهجوم علي العدو. يجب ألا نجعله يستريح. يجب أن نطأه بالنعال ونقطع أنفاسه لنذهب.
هدفنا: فتح جبهة الجنوب. نهرب الاسلحة والذخائر من باماكو. استثارة أهالي الصحراء، والتوغل حتي نصل إلي نجاد الجزائر العالية. وبعد ربط الجزائر بأركان افريقيا الاربعة، نعود بكل افريقيا إلي الجزائر الافريقية، نحو الشمال، نحو مدينة الجزائر الافريقية. ان ما أريده هو: خطوط مواصلات كبيرة، قنوات ملاحة كبيرة عبر الصحراء. الاحتيال علي الصحراء.. تجاهلها - توحيد افريقيا. خلق قارة. فليتدفق القوم علي أرضنا من مالي، ومن السنغال، ومن غينيا، ومن ساحل العاج، ومن غانا، بل ومن نيجيريا وتوجو. فليتساق الجميع سفوح الصحراء لينهالوا علي قلاع المستعمر. الاستيلاء علي الباطل والمستحيل بنقيضه واطلاق القارة للهجوم علي آخر حصون القوي الاستعمارية.
نحن ثمانية فدائيين. منا الجيش والمواصلات والمسئولون السياسيون والجهاز الطبي. وكل مجموعة مكونة من اثنين وعليها أن تنصرف وفقا لامكانيات عملها الخاصة. العمل السريع، الوقت ضيق، مازال العدو متماسكا. فالواقع هو انه لم يقتنع بعد بهزيمته العسكرية، ولكنني شخصيا لم أشعر من قبل بيقين حدوثها كما أشعر الان، فالهزيمة علي مقربة خطوات.. يكفي أن نسير وأن نقتحم.. لاداعي حتي للخطط. لدينا جموع محتشدة وغاضبة، مؤمنة بمعركتنا، مشغولة بالعمل، أن افريقيا معنا، لكن من ذا الذي يهتم؟ أن قارة علي وشك أن تنطلق بينما أوروبا في سباق عميق. منذ خمسة عشر عاما كانت آسيا هي التي تتنفض فكان الاوربيون يهزأون بانتفاضتها. أما اليوم، فان أوربا والولايات المتحدة تقشعر. ان 650 مليون صيني يحتفظون في هدوء بسر عظيم ويبنون عالما بأنفسهم. ولادة عالم جديد.
أنا وشوقي
شوقي. رجل غريب. قائد جيش التحرير الوطني في منطقة »سوف«. قصير، نحيل، حاد النظرة كالمحاربين القدامي عادة. أنني أتعرف، منذ زمن، علي قدم المحارب من بريق عينيه. عيناه لاتخدعان. أنهما تقولان بصراحة أنهما عاشتا أهوالا: استبداد. تعذيب. طلقات المدفعية. مطاردة، تصفية.. انك تلاحظ في عينيه نوعا من التعالي، ومن الصرامة شبه القاتلة، وعدم الخجل أيضا.. ان المرأ اعتاد التحفظ مع مثل هؤلاء الرجال. يمكنك أن تبوح لهم بكل شيء، علي أن يشعروا ويلمسوا الثورة في الكلمات المنطوقة. ومن الصعب جدا خداعهم أو تضليلهم .
اننا نتقاسم الفراش حاليا، شوقي وانا. وتمتد مناقشاتنا إلي ساعة متأخرة من الليل. انني دائم الدهشة تجاه ذكاء ووضوح افكاره. انه متخرج في الجامعة الاسلامية بالزيتونة في تونس، وأراد أن يتصل بالحضارة الغربية، فاستقر في الجزائر ليتعلم الفرنسية، ويري ويحكم ويتمعن، لكن جو الجزائر، بمستعمريها الذين يحتقرون الاهالي، مع جهله التام باللغة الفرنسية، وأنعزال الوسط الغربي، دفعه إلي الذهاب إلي فرنسا. ولمدة عامين، عاش في باريس، وتداخل في الاوساط الاوربية، وارتاد المكتبات، والتهم مئات الكتب.
واخيرا عاد إلي الجزائر مقررا ابراز قيمة اراضي أبيه. وفي عام 1954، حمل بندقية الصيد وانضم إلي اخوانه، انه يعرف الصحراء جيدا. إن هذه المساحة الصحراوية الشاسعة تكتسي بكثير من التفاصيل عندما يتحدث عنها، مناطق فيها الكرم، ومناطق يكمن فيها الخطر. ومناطق معيشة فيها دروب للتوغل عبرها، ان الصحراء عالم حقيقي حيث تطور شوقي بجسارة ودقة فائقة. ان الفرنسيين لا يرتابون في الحيل التي يستعد هذا الرجل للقيام بها.
يجب الاعتراف بأن مهمتنا كادت تنتهي في محاكم الجزائر. ففي أكرا، أكد لنا »منساه«، الموظف بشركة غانا للخطوط الجوية والذي يأخذ منا في كل حجز بضع عشرات الالاف من الفرنكات، ان علينا أن نأخذ الطائرات التي تسير علي خط مونروفيا - كوناكري. وفي مطار ليبيريا، أخطرونا بأن الطائرة كاملة العدد، وأن علينا أن ننظر إلي اليوم التالي لنصل إلي كوناكري علي طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية. ولقد كان الموظفون في غاية اللطف علي غير العادة، واقترحوا علينا ان تتكفل الشركة بكل نفقات الاقامة، ان هذا الطلب المثالي، والجنسية الفرنسية لاغلب الموظفين، ومنظر احدي فتيات الكانتين الفرنسيات الذي يبعث علي الملل.. كل ذلك جعلنا نغير طريقنا، فقررنا الرحيل من مونروفيا برا، والوصول إلي غينيا عن طريق تزيربكوري.
وحتي الليلة الاخيرة، كان الموظفون مقتنعين بأننا سنستغل الطائرة التي كانت ستتأخر ساعتين في ذلك اليوم.
أيها الاوروبيون، اقرأوا هذا الكتاب، ادخلوا فيه فبعد أن تسيروا بضع خطوات في الظلام ستجدون أناسا أجانب قد تحلقوا حول نار، اقتربوا منهم، وأصغوا إليهم: إنهم يبحثون في المصير الذي يهيئونه لوكالاتكم وعملائها الذين يحمونها. قد يرونكم، ولكنهم سيستمرون في التحدث حتي دون أن يخفضوا أصواتهم. إن عدم اكتراثهم هذا يحز في القلب: إن آباءهم الذين كانوا مخلوقات تعيش في كنفكم، مخلوقات انتم خالقوها، إن آباءهم أولئك كانوا نفوسا ميتة. كنتم تغدقون عليهم النور، وكانوا لا يتجهون بالحديث إلا إليكم، وكنتم لا تكلفون أنفسكم عناء الرد علي هؤلاء البدائيين. ولكن الأبناء يجهلونكم: إنهم يستضيئون ويستدفئون بنار ليست ناركم. ولسوف تشعرون، وأنتم منهم علي مسافة تهيباً، أنكم متخفون متسللون في الظلام خائفون: لكل دوره. وفي هذه الظلمات التي سينبجس منها فجر جديد ستكونون أنتم البدائيين.
المناضل يعرف ذلك!
ان هذا المناضل يحرق المراحل. انكم لتقدرون جيدا انه لا يجازف بجلده من أجل أن يجد نفسه في مستوي الانسان القديم، انسان »البلاد المستعمرة«. انظروا الي صبره الطويل: لقد يحلم أحيانا ب»ديان - بيان - فو« جديدة. ولكن ثقوا انه لا يعتمد ذلك حق الاعتماد: انه صعلوك يناضل، وهو في الفقر والبؤس، ضد أناس أغنياء مسلحين تسليحا قويا. وهو اذ ينتظر الانتصارات النهائية، أو لا ينتظر شيئا في كثير من الأحيان، يثير في أعدائه الحقد، ولا يتحقق هذا من غير خسارات فظيعة. ان جيش الاستعمار يصبح كاسرا: فهو يقوم بعمليات تطهير، ويشن حملات انتقامية، ويقتل النساء والأطفال. والمناضل يعرف ذلك: إن هذا الانسان الجديد يبدأ حياته من نهايتها. انه يعد نفسه ميتا بالقوة. لسوف يُقتل. انه لا يرتضي أن يعرض نفسه للقتل فحسب، بل هو موقن بأنه مقتول لا محالة. إن هذا الميت بالقوة قد فقد زوجته وأبناءه. لقد بلغ من فرط رؤيته لاحتضار الآخرين انه لا يريد أن يعيش بقدر ما يريد أن ينتصر. غيره سيستفيد من النصر، لا هو. لقد سئم هو. لكن هذه السآمة هي مصدر شجاعة لا تصدق. نحن نجد انسانيتنا سابقة علي الموت واليأس، أما هو فيجدها بعد العذاب وبعد الموت. نحن كنا ننثر هواء، أما العاصفة فهو. انه ابن العنف يستمد منه في كل لحظة انسانيته: لقد كنا بشرا علي حسابه، وهو يصبح بشرا علي حسابنا. يصبح انسانا أفضل.
هنا يتوقف فانون. لقد دل علي الطريق: انه وهو الناطق بلسان المناضلين، قد طالب باتحاد القارة الافريقية ضد جميع الخلافات وجميع الانقسامات، قد طالب بوحدة القارة الافريقية ضد هذه الخلافات والانقسامات. ولو شاء أن يصف وصفا كاملا هذه الحادثة التاريخية، أعني حادثة الخلاص من الاستعمار، لكان عليه أن يتحدث عنا، وذلك ليس موضع كلامه. ولكننا بعد أن نقرأ كتابه يظل هذا الكتاب يتتابع فينا رغم مؤلفه. ذلك اننا نشعر بقوة الشعوب الثائرة، ونرد علي هذه القوة بالقوة. فهناك إذن لحظة جديدة من العنف، والينا انما ينبغي الرجوع في هذه المرة، لأن العنف أخذ يبدلنا بمقدار ما يتبدل المستعمر بواسطته. إن لكل انسان أن يقود أفكاره كما يشاء، ولكن شريطة أن يفكر: ففي أوروبا اليوم، أوروبا التي أطاشت صوابها الضربات التي تكال لها، في فرنسا وفي بلجيكا وفي انجلترا، يجب أن يعد أقل تغافل فكري تواطؤا اجراميا مع الاستعمار. ان هذا الكتاب لم يكن في حاجة الي مقدمة، خاصة انه غير موجه الينا. ومع ذلك كتبت له هذه المقدمة، من أجل أن أمضي بالديالكتيك الي أقصاه: انهم يخلصوننا من الاستعمار، نحن أيضا، أهل أوروبا: انهم يجتثون بعملية دامية، المستعمر الموجود في كل منا. لننظر في أنفسنا، ولنر، اذا كانت لنا شجاعة، ما الذي يحدث لنا.
يجب أولا أن نواجه هذا المنظر غير المتوقع: تعرّي دعوانا الانسانية، هذه هي دعوانا الانسانية مكشوفة العورات غير جميلة. انها لم تكن الا ايديولوجيا كاذبة. لقد كانت تسويغا مزّوقا للنهب والسلب. لقد كانت رقتها وغندرتها كفالة وضمانة لعدواننا. ان لهم وجها لطيفا هؤلاء الذين لا يحبون العنف: ليسوا ضحايا ولا هم جلادون! ولكن دعك من هذا الكلام! إن لم تكونوا ضحايا، حين تقوم الحكومة التي رفعتموها بالاستفتاء، ويقوم الجيش الذي خدم فيه اخوتكم الصغار، بأعمال إبادة للنوع الانساني، بلا تردد، وبلا عذاب ضمير، فإنكم جلاّدون ولاشك. واذا اخترتم أن تكونوا ضحايا بتعريض أنفسكم لسجن يوم أو يومين، فأنتم لا تزيدون علي أن تنسحبوا. ويجب ألا تنسحبوا، يجب أن تبقوا الي النهاية. افهموا أخيرا هذه الحقيقة: لو ان العنف قد بدأ في هذا المساء، ولو أن الاستغلال والاضطهاد لم يوجدا علي الأرض، فإن اللاعنف الذي تنادون به قد ينفع في تهدئة الشجار. أما وان النظام كله، وحتي أفكار اللاعنف التي تنادون بها، هي ثمرة اضطهاد عمره ألوف السنين، فإن سلبيتكم لا تزيد علي أن تضعكم في صف المضطهدين.
انكم تعلمون حق العلم اننا مستغلون. انكم تعلمون حق العلم اننا سلبنا »القارات الجديدة« ذهبها ومعادنها ثم بترولها، وجئنا بذلك كله الي بلادنا القديمة. وقد حصّلنا من ذلك نتائج رائعة: قصورا وكاتدرائيات وعواصم صناعية. ثم حين كانت الأزمة تهددنا كانت وظيفة أسواق البلاد المستعمَرة ان تزيل الأزمة أو أن تحول مجراها. واتخمت أوروبا بالثروات، ومنحت صفة الانسانية لجميع سكانها علي السواء، فالانسان في بلادنا شريك في الجريمة، لأننا أفدنا جميعا من استغلال المستعمرات. ان هذه القارة الدسمة الصفراء تنتهي الي ما يطلق عليه فانون اسم »النرجسية« بحق. ان كوكتو ينزعج من باريز »هذه المدينة التي تتحدث في كل لحظة عن نفسها«. وأوروبا، هل تفعل غير هذا؟ وذلك المسخ الذي فاق أوروبا، أمريكا الشمالية؟ يالها من ثرثرة: حرية، مساواة، أخوة، محبة، شرف، وطن، وما لا أدري أيضا! وكان هذا الكلام لا يمنعنا من أن نقول في الوقت نفسه كلاما يعّبر عن العصبية العرقية: زنجي قذر! وكان بعض الطيبين، الليبراليين الليّنين - أي بعض الاستعماريين الجدد - يدعون انهم يستغربون هذا التناقض. وذلك خطأ أو كذب مقصود: فلا شيء أقرب الي الانسجام المنطقي عندنا من نزعة انسانية عرقية، لأن الأوروبي لم يستطع أن يجعل نفسه انسانا ألا بخلق عبيد ومسوخ. ولم تنكشف هذه الخدعة ما ظل هناك أناس يقال لهم »سكان أصليون«. لقد كانوا يغطون بهذه الموضوعة المجرد، موضوعة النوع الانساني العام، اعمالا لاتتفق مع هذه الموضوعة: كانوا يرون أن هناك علي الجهة الأخري من البحر كائنات هي دون الانسان، قد تستطيع بعد ألف عام أن تصل بفضلنا الي الحالة التي نحن عليها. كانوا إذن يخلطون بين النوع الإنساني والصفوة. واليوم يكشف السكان الاصليون عن حقيقتهم، فيكشف نادينا عن ضعفه. لقد كان نادينا اقلية لا اكثر من ذلك ولا أقل. بل هناك ما هو أسوأ من ذلك: مادام الآخرون يصبحون بشرا بمقاتلتنا، فنحن إذن اعداء النوع الإنساني. ان الصفوة تكشف عن طبيعتها الحقة: انها عصابة. ان قيمنا الغالية تفقد اجنحتها. فلو نظرت إليها عن كثب لم تجد منها واحدة غير ملطخة بالدم. اذا أردتم امثلة فتذكروا هذه الكلمات الكبيرة: ما اكرم فرنسا! من؟ أنحن كرماء؟ فما قولكم إذن في حوادث صطيف؟ ماقولكم في هذه السنين الثماني من حرب كاسرة أزهقت ارواح اكثر من مليون جزائري؟ ولكن ثقوا انهم لا يأخذون علينا إننا خنّا رسالة ما، لسبب بسيط هو انه لم تكن لنا أية رسالة. ان الكرم هو بعينه موضوع الجدل. فهذه الكلمة الرنانة ليس لها إلا معني واحد هو منح حقوق، وهؤلاء البشر الذين نواجههم، هؤلاء البشر الجدد المتحررون، ليس لأحد في نظرهم قدرة علي ان يمنح شيئا لأحد، ولا له هذا الامتياز. ان لكل امريء جميع الحقوق. وحين سيتاح لنوعنا الإنساني يوما ان يتكون، فلن يعرف بأنه مجموع سكان الكرة الارضية، وانما سيعرف بأنه الوحدة اللانهائية لما بينهم من تبادل تشارك. وهنا أقف عن الكلام، ففي وسعكم ان تتموا العمل بغير عناء. انه ليكفيكم ان تنظروا إلي فضائلنا الارستقراطية نظرة شديدة، لأول مرة وآخر مرة، حين تدركوا انها تموت. وكيف لها ان تبقي حية بعد فناء ارستوقراطية الذين أنشأوها من أناس هم دون الإنسان! ان معلقا بورجوازيا -واستعماريا- اراد ان يدافع منذ بضع سنين عن الغرب فلم يجد إلا هذا الكلام: »نحن لسنا ملائكة، ولكننا، نحن، نشعر بعذاب الضمير«. ياله من اعتراف ! لقد كانت قارتنا تملك في القديم عوامات أخرت: البارثنون، شارتر، حقوق الإنسان، الصليب المعقوف ونحن نعرف الآن قيمة هذه العوامات. لقد أصبحوا لايطمعون في إنقاذنا من الغرق إلا بذلك الشعور المسيحي جداً، الشعور بإثمنا- ها انتم ترون إذن انها النهاية: ان المياه تحف باوروبا من كل جهة. فما الذي حدث؟ ان الجواب علي هذا السؤال بسيط: لقد حدث اننا كنا نصنع التاريخ، فأصبح التاريخ الآن يصنعنا. لقد انقلبت نسبة القوي، والتخلص من الاستعمار ماض في طريقه. وكل ما يستطيع الجشعون ان يحاولوا فعله هو ان يؤخروا اتمامه.
ولاتزال »العواصم الاوروبية« العتيقة تدلي في هذا بدلوها، وتورط في معركة خاسرة منذ الآن جميع قواها. ان هذه الوحشية الاستعمارية الهرمة التي صنعت لبيجو واضرابه ذلك المجد المشكوك فيه، نحن نجدها الآن في نهاية المغامرة مضاعفة وغير كافية. لقد ارسلوا إلي الجزائر كل ما يمكن ارساله من قوي ماتزال ترابط هنالك بغير نتيجة. لقد غير العنف اتجاهه، كنا ونحن منتصرون، نمارسه دون ان يبدو انه يفسدنا: كان هذا العنف يحلل الآخرين، بينما تظل انسانيتنا ، نحن البشر، سليمة لم يمسسها أذي. كان سكان البلاد المستعمرة، وقد وحدت بينهم الفائدة، يطلقون علي اشتراكهم في الجرائم اسم الحب والاخوة. ولكن هذا العنف يدحر اليوم في كل مكان، فيرتد هو نفسه الينا عن طريق جنودنا، فينفذ الي داخلنا، ويخالطنا مخالطة المس. لقد بدأ التراجع: ان المستعمر يعيد تشكيل نفسه، اما نحن، المتقدمون والليبراليون، سواء أكنا مستوطنين في المستعمرات ام مقيمين في اوروبا، فأننا نتحلل. ان الحنق المسعور والخوف الشديد يتعريان منذ الآن: انهما مكشوفان في »مجازر« مدينة الجزائر. اين هم المتوحشون الآن؟ اين هي البربرية؟ لاشيء ينقص هذه المجازر حتي ولاقرع الطبول: فبينما يحرق الاوروبيون المسلمين أحياء، تصيح أبواق السيارات معلنة ان »الجزائر فرنسية«. يذكر فانون، ان جماعة من أطباء الامراض العقلية افصحوا في مؤتمر لهم، منذ زمن غير بعيد، عن حزنهم لشيوع الجريمة بين »السكان الاصليين«، وقالوا: ان هؤلاء الناس يقتل بعضهم بعضا، وهو شيء غير سوي، فلابد ان القشرة الدماغية لدي الجزائري متخلفة النمو. وقال آخرون في افريقيا الوسطي ان »الافريقي لايستعمل الفصين الجبهيين من الدماغ إلا قليلا جدا«. لقد يهم هؤلاء العلماء اليوم أن يتابعوا بحثهم هذا في اوروبا، وخاصة لدي الفرنسيين. اذ لا شك أننا، نحن ايضاً، قد أصبحنا منذ زمن مصابين بكل في الفص الجبهي من الدماغ. فأهل الوطن الواحد يقتل بعضهم بعضا، ويستغل بعضهم غياب بعض عن منزله حتي ينسفوا البواب والبيت. وما هذا إلا بداية: فالحرب الأهلية يتوقع ان تنشب في الخريف او في الربيع القادم. ومع ذلك تظل تبدو الفصوص الجبهية من ادمغتنا سليمة كل السلامة: أليس الأجدر ان نقول إننا ، وقد عجزنا عن سحق »السكان الاصليين«، ارتد العنف الينا، وتجمع في اعماقنا، وأخذ يبحث عن مخرج؟ ان اتحاد الشعب الجزائري يولد تفكك الشعب الفرنسي: في جميع المستعمرات ترقص القبائل وتتهيأ للمعركة. وترك الإرهاب افريقيا ليستقر هنا: ذلك ان هنالك اشخاصا مسعورين يريدون ان ندفع منا ثمنا للعار الذي لحق بهم حين غلبهم »السكان الاصليون«،
(سبتمبر) 1961
مقاطع من المقدمة التي كتبها
سارتر لكتاب »معذبو الأرض«
جان بول سارتر
عنف فانون
من المدهش تماما أن نكتشف ديالكتيك الذات- الموضوع وقد جُنَّد بقوة فكرية وسياسية مدمرة في عمل فرانز فانون الأخير »معذبو الأرض« المكتوب عام 1961، سنة وفاة مؤلفه، وجميع كتب فانون عن الكولونيالية تظهر بوضوح مديونيته لماركس وإنجلز، وكذلك لفرويد وهيغل. غير أن القوة اللافتة التي تقيم تمايزا بين عمله الأخير وتلك الخلفية الكاريبية الواضحة في عمله بشرة سوداء، أقنعة بيضاء (1952) هي قوة تبرزها الطاقة الحركية المتأججة التي يحلل بها فانون ويموضع التناقض بين المستوطن والمحلي علي خلفية جزائرية. فثمة منطق فلسفي .
يبدو أن ثمة شيئين قد حصلا بين خمس سنوات علي الثورة الجزائرية (1959)، مجموعة مقالاته الاولي بعد ان غير تركيزه من الكاريبي الي شمال افريقيا، ومعذبو الارض. من الواضح أن أول هذين الشيئين هو أن تقدم الثورة الجزائرية قد عمق ووسع الهوة بين فرنسا ومُسْتَعْمَرتها. فقد كان ثمة دفع أكبر باتجاه الفصل بينهما، وغدت الحرب أشد بشاعة وانتشارا، وأتخِذَت المواقف في كلِّ من الجزائر والمتروبول. مع صدوع وصراعات ضروس في كلا المعسكرين المتعاديين الكبيرين. أما الشيء الثاني -كما أخمِّن -فيبدو ان فانون قد قرأ كتاب لوكاش واستمد من فضله الخاص بالتشيؤ فهما للكيفية التي يمكن بها الاعتماد علي تحليل صارم لإشكالية مركزية، حتي في أشد الأوضاع تشوشا وتغايرا، في التوصل إلي فهم واسع للكل. ودليلي علي ذلك، لكي أكرر، ليس بالدليل المتين ، غير أنه جدير بالملاحظة: فقد ظهرت طبعة فرنسية من كتاب لوكاش الاساسي »التاريخ والوعي الطبقي« في العام 1961،في ترجمة ممتازة قام بها كوستاس أكزيلوس وجاكلين بوا.. وكانت بعض فصول الكتاب قد ظهرت قبل بضعة سنين، لكن العام 1961 كان أول مرة يظهر فيها الكتاب كاملا في أي مكان علي الإطلاق منذ أن أنكر لوكاش معتقدات الكتاب الأشد جذرية قبل جيل من ذلك التاريخ. وفي تصديره للكتاب قارن أكزيلوس بين لوكاش وغاليليه بريخت، واصلا إياه ايضاً بشهداء الحقيقة الآخرين.
مثل سقراط، والمسيح، وجيوردانو برونو، فتبعا لأكزيلوس، الأمر الاساسي بالنسبة لفكر القرن العشرين هو أن بحث لوكاش العظيم قد شُطِبَ من كل من التاريخ والوعي الطبقي، دون أن يظهر له أي أثر واضح علي أولئك الكادحين الذين صُمّم الكتاب لمساعدتهم.
وتتضح مباشرة من الصفحات الافتتاحية.. في معذبو الأرض. تلك القوة التي تصادي بها ديالكتيك الذات- الموضوع خارج أوروبا، لدي جمهور مؤلف من ذوات كولونيالية. فالمانوية التي يقول فانون إنها تفصل المدينة الكولونيالية النظيفة، حسنة الإنارة عن القصبة المظلمة، الحقيرة، المبتلاة بالأمراض تستعيد اغتراب عالم لوكاش المتشيء. كما يتمثل كامل مشروع فانون في إلقاء الضوء اولا علي الانفصال بين المستعِمر والمستعمَر (الذات والموضوع) ثم تشجيع ذلك الانفصال كيما يمكن لما هو زائف. ومتوحش، ومحدد تاريخيا بشأن العلاقة بينهما، أن يتضح، ويثير الفعل: ويفضي إلي الإطاحة بالكولونيالية ذاتها. وكما يقول لوكاش في تصديره الهيغلي البارز عام 1922 لكتاب »التاريخ والوعي الطبقي«: »إن من جوهر المنهج الديالكتيكي ان يتم لاحقا تخطي المفاهيم الزائفة بما تتميز به من أحادية جانب مجردة«. وعلي هذا سوف يجيب فانون بأن ما من شيء مجرد أو مفاهيمي بشأن الكولونيالية، التي كما قال كونراد مرة. «تعني انتزاعها (الارض) من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا أو أنوف اكثر تسطيحا بقليل من أنوفنا«. وهكذا، تبعا لفانون.
القيمة الاساسية عن الشعب المستعمر إنما هي الأرض أولا وأخيرا، نظرا لانها القيمة الأشد ملموسية: الارض التي توفر لهم الخبز بل، أهم من ذلك، الكرامة، غير ان هذه الكرامة لاعلاقة لها بكرامة الفرد البشري: ذلك ان هذا الفرد البشري، لم يُسْمَع ابدا وهو يتحدث عنها. وكل مارآه المحلي في بلده هو أن بمقدورهم اعتقاله، وضربه، وتجويعه علي هواهم: وما من استاذ من اساتذة الأخلاق أو كاهن تقدم لكي يتلقي عنه اللطمات، أو يتقاسم معه الخبز. وبقدر ما يتعلق الأمر بالمحلي: الأخلاق ملموسة جدا، إنها إسكات تحدي المستوطن، وتحطيم عنفه المتباهي، وبكلمة، طرده خارج الصورة.
لقد وجد ديالكتيك لوكاش في »معذبو الأرض« ما يوفر له أساسا: ويحققه، ويمنحه نوعاً من الحضور الخشن الذي لانجده في أي مكان من إعادة تفكيره المكروبة بالتناقضات الفلسفية الكلاسيكية. فالقضية بالنسبة للوكاش كانت أولوية الوعي في التاريخ: أما بالنسبة لفانون فهي أولوية الجغرافيا في التاريخ، ومن ثم أولوية التاريخ علي الوعي والذاتية. فوجود الذاتية أيما وجود إنما هو ناجم عن الكولونيالية- التي أقامها الأوروبيون الذين أتوا مثل أوديسيوس إلي الهوامش كيما يستغلوا الأرض وشعبها، ويقيموا بعد ذلك ذاتية عدوانية جديدة- وما إن تختي الكولونيالية حتي لا تعود للمستوطن أية مصلحة في البقاء أو في التعايش (45). ولقد حول المستعِمر الذاتي المحلي إلي مخلوق مجرد من الإنسانية تنطبق عليه اللغة المستعملة في وصف الحيوانات: وبالنسبة للمستوطن فإن المصطلحات المستخدمة لتزييف وتخفيف حضوره أو حضورها القمعي هي مصطلحات مستعارة من »الثثقافة العربية« التي كلما ذكرت تُحْدِث لدي المحلي نوعا من التصلب أو التشنج العضلي.
وفي الوقت الذي يستخدم فيه فانون ديالكتيك الذات -الموضوع بأشد ما تكون الفعالية فإنه يتروي تماما بشأن محدودياته. وهكذا، كي نعود إلي العلاقة بين المنطقة الكولونيالية والحي المحلي: هاتان »المنطقتان متعاكستان«، يقول فانون. »إنما ليس في خدمة وحدة أعلي.. إنهما تخضعان كلتاهما لمنطق الإقصاء المتبادل. فلا سبيل إلي أية مصالحة، لأن من بين الطرفين واحدا زائدا وغير ضروري وفي الوقت الذي يستخدم فيه فانون تحليلا ماركسيا واضحا فإنه يدرك بجلاء أن مثل هذا »التحليل ينبغي علي الدوام أن يُوَسّع قليلا« في الوضع الكولونيالي. ذلك انه لا المستعمِر ولا المستعمَر يسلكان علي أن الذات والموضوع يمكن أن يتصالحا في يوم من الأيام. فالأول ينهب ويسلب، والثاني يحلم بالانتقام. وحين ينهض المحلي في تمرد عنيف، فإن ذلك ليس مواجهة عقلانية بين وجهتي نظر. ليس خطابا فيما هو كوني، بل تأكيد منفلت لفكرة اصيلة تقدم علي أنها مطلقة» ولا حاجة للتذكير بأن الترياق الذي يقترحه فانون للخلاص من وحشية الكولونيالية هو العنف: «عنف النظام الكولويالي والعنف المحلي المضاد يوازن واحدهما الآخر ويتجاوب وأحدهما مع الآخر في تناغم متبادل غريب فمنطق الكولونيالية يعاكسه منطق المحلي المضاد الصارم والعنيد بالمثل. ولذا فإن ما يفعل فعله طوال حرب التحرر القومي هو ديالكتيك مقاتل للذات -الموضوع حده المركزي هو العنف الذي يظهر لوهلة كأنه يلعب دورا تصالحيا، وتغييريا. والحق أن فانون يقول إن ما من تحرر بلا عنف ومن المؤكد أنه يعترف بأنه ليس ثمة «سلوك صادق» في وضع استعماري: «الخير هو ببساطة مطلقة ما هو شر بالنسبة لهم. ولكن هل يشير فانون، مثل لوكاش، إلي أن من الممكن إتمامه ديالكتيك الذات - الموضوع، وتخطيه وتركيبه، وأن العنف بحد ذاته هو ذلك التحقق، وأن التوتر الديالكتيكي ينحل بواسطة الثورة العنيفة إلي سلام وانسجام؟.
إن التصور الذي غدا الآن تقليديا عن العنف الفانوني هو هذا التصور بالضبط، وهو فكرة تلقي قبولا، علما انها ضرب من الاختزال الكاريكاتوري الذي ينطبق علي الحرب الباردة (حيث يهاجم سيدني هوك فانون لكونه مثالا علي ذلك) أكثر مما ينطبق علي مايقوله فانون حقا وعلي الطريقة التي يقوله بها. وبعبارة أخري، فإن من السهل كثيرا أن يقرأ فانون وكأن ما كان يفعله في معذبي الأرض لم يكن سوي تكرار للوكاش، مستبدلا علاقة الذات- الموضوع بعلاقة المستعمر -المستعمر علي وجه التحديد، و»وعي البروليتاريا الطبقي الجديد«. مصطلح لوكاش الخاص بالتركيب، بالعنف الثوري في نص فانون. غير أن ذلك يغفل تنقيح فانون ونقده الحاسمين للوكاش، حيث يعطي فانون أولوية مطلقة للعنصر القومي المغفل في التاريخ والوعي الطبقي، إذ أن خلفية هذا العمل، شأن خلفية عمل ماركس، هو أوروبية تماما.
وكان فانون قبل ذلك قد استخدم ديالكتيك الذات- الموضوع بطريقة هيغلية واضحة، وهذا جلي في بشرة سوداء، حيث يستخدم ديالكتيك السيد -العبد ليبين كيف حولت العنصرية الزنجي إلي «انحراف وجودي». غير أن فانون قد ميز حتي هنا بين الديالكتيك كما تصوره هيغل لأوروبا البيضاء، وبين الديالكتيك كما يمكن ان يستخدمه البيض ضد الزنوج: «هنا [في العلاقة الكولونيالية بين الأعراق] يختلف السيد أساسيا عن السيد الذي وصفه هيغل، فعند هيغل ثمة تبال، أما هنا فالسيد يهزأ من وعي العلاقات العرقية الوجودية تبطل بمعني ما : فهي الآن توضع وتعاد موقعتها جغرافيا في الوضعية الكولونيالية، وما يستنتج من هذا هو أن «العالم مقسم إلي حجرات، عالم مانوي لا حراك فيه، عالم تماثيل.
وباختصار فإن التناقض الكولونيالي يمكن أن يعاد تأويله الآن علي انه تناقض بين أمتين، إحداهما تسيطر علي الأخري، وتمنعها عمليا في سياق ذلك من الوجود.
فانون.. كلاسيكي لأجل وقتنا الراهن
في 6 ديسمبر 1961، توفي فرانتز فانون في مستشفي بتسدا، في الماريلان. ولد في عام 1925 بجزر المارتينيك، طبيب نفساني، فيلسوف ومناضل عضوي بحبهة التحرير الوطنية الجزائرية. توفي بلوكيميا الدم بعد أيام قليلة من صدور كتابه المشهور : "معذبو الأرض".
توفي فرانتز فانون، المناهض للكولونيالية في "بلد العقوبات التعسفية"، ولا نجد شيئا أفضل من هذه الرسالة، التي كتبها الي صديق له قبل قليل من وفاته، تبين حالته الفكرية : "روجيه، أريد أن أقول أن الموت حاضر معنا دائما، والمهم لا أن نعرف تجنبه وانما أن نجعله أفكارا تصبح أفكاره بصورة كبيرة. ما يكدرني علي هذا الفراش، في اللحظة التي أشعر فيها أن قواي تخور، ليس الموت، وانما الموت في واشنطن بلوكيميا حادة، بينما أنني عشت الموت، ومنذ ثلاثة أشهر أواجه العدو بما أنني عرفت اصابتي بهذا المرض. لسنا تافهين علي هذه الأرض اذا لم نكن، بداية، عبيد الظرف، ظرف الشعوب، ظرف العدالة والحرية. أحب أن أبين لك أنه في اللحظة التي أصيب الأطباء فيها باليأس، لم أزل أفكر، رغم الغموض، في الشعب الجزائري، في شعوب العالم الثالث، واذا ما كنت حيا بعد، فهذا بسببها" (رسالة الي روجيه طيب، كتبها في بداية علاجه، أكتوبر 1961). كما نعرف، عرف فرانتز فانون أول انتصاراته مع تحقق استقلال الجزائر، كظرف ناضل لأجله، بعد عام علي وفاته.
نجاح عالمي
يعتبر "معذبو الأرض" أحد أهم النصوص الشعبية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت في العالم بأسره. في غالبية دول المستعمرات، أصبح نصا مرجعيا أساسيا لكل مناضل ملتزم بالنضال من أجل التحرر الوطني : سواء ضد القوي الكولونيالية القديمة التي قررت الحفاظ علي هيمنتها، أو ضد الحكومات العسكرية والديمقراطية "الوطنية"، والتي ينظر اليها علي أنها متواطئة مع سياسة الولايات المتحدة الكولونيالية الجديدة في قارات الجنوب الثلاث. حتي في داخل الولايات المتحدة الآميركية، لم يتأخر نص فانون علي أن يكون دليل تكوين الثوري في المجموعات السياسية الراديكالية وقتذاك، كما حدث مع نشطاء "القوة السوداء" أو "حزب الفهود السود". نظر بوبي سيل وهوي ب. نيوتن، مؤسسا "الفهود السود" الي نص فانون علي أنه ذو أهمية مؤسسية في الصراع ضد العنصرية لدي الطوائف الآفرو-آميركية. من الممكن أن نذكر أيضا مقدمة بيان "الفهود السود"، "سياسة التحرير"، (لستوكلي كارميكائيل وتشارلز هاميلوت، 1967) اذ رجع الي نص فانون. من الممكن أن يتم الاستدلال علي الشعبية الجارفة "لمعذبي الأرض"، في الجامعات وقتذاك، من خلال فكرة "الحقد"، التي صورتها هانا آرندت (في كتابها "حول العنف")، لدي هؤلاء الشباب البيض والسود المفتونين "بالشطط البلاغي القوي لفانون" و"تمجيد العنف".
كان استقباله في أوروبا مختلفا. بالتأكيد، حاز علي شهرة كبيرة وكانت هناك ثمة مداخلات متحمسة، مثل مداخلات سارتر وسيمون دو بوفوار وجيوفاني بيريللي (في ايطاليا) ومجموعة المثقفين والمناضلين المتحلقين في باريس حول مجلة "أنصار". ولكن في المجمل، تذبذب وضع "معذبو الأرض"، لدي اليسار والأوساط السياسية الأوروبية الراديكالية المتطرفة لهذا الوقت، بين القبول "الأبوي"، أي المتعاطف (عن كونه نظريا أو سياسيا)، والكبت (الواعي) للنقد المباشر في غالب الأحيان أيضا. لا تعتبر أسباب هذا اللقاء الخائب بين الفكر السياسي الراديكالي المهيمن في أوروبا ونزعة فانون العالمثالثية غير صعبة في استنباطها. علي نحو مبسط، من الممكن القول أن اللغة الوجودية، الديالكتيكية والانسانية لفانون، فضلا عن وطنيته العنيدة (كما أنها ثورية ونمطية) وأفكاره حول العمال الصناعيين الأوروبيين، الذين اتهمهم بالاندماج في مشروع الهيمنة الرأسمالية، واشارته الثابتة الي الفلاحين والطبقة العمالية المستغلة (بفتح الغين) الحضرية في البلاد النامية كموضوعات ثورية مثلت مفاهيم بعيدة للغاية عن هذه البني "بني الشعور" التي تم تأكيدها تدريجيا في الأوساط الأوروبية الراديكالية التي قامت بثورة 1968.
ولكن اذا كان هذا ما يقوله التاريخ لنا، لماذا يتم تنظيم حلقة بحثية في نابولي مكرسة عن اعادة قراءة "معذبو الأرض" ؟ حتي أن عنوان الحلقة البحثية، التي تدور حاليا 2011، يقترح اجابة أولي : اليوم، هناك لدي فانون كما لدي نصه شئ ما غامض وراهن في آن معا يثيرنا باستمرار. بالتأكيد، هذا المتبقي من الشطط الدائم التدفق ومن الدلالات المضافة يؤكد علي انتاجية الأرشيف الفانوني، أي الذي يدفعنا دوما الي قراءة الحاضر عبر فانون، وقراءة فانون عبر الحاضر. وهكذا علي سبيل المثال : كم منا فكر في فانون و"بيانه عن ازالة الكولونيالية" بينما تتساقط قنابل الناتو علي أفغانستان ثم العراق ؟ كم منا لم يفكر علي الاطلاق في فانون مع الاضطرابات التي جرت في الضواحي الباريسية في عام 2005 ؟ كم بيننا من يفكر عن الممارسات المناهضة للحجاب والنقاب من جانب الحكومات الأوروبية أو احتفاءهم المستمر بمناهضة التعددية الثقافية وهذا النسيج الذي يعرف فضاءنا المتروبوليتاني ؟ كيف لا نفكر في نص "معذبو الأرض" وبرنامجه بالنسبة لازالة الكولونيالية في افريقيا، حينما نتحدث عن الوضعية الحالية لبلدان مثل الكوت ديفوار، زيمبابوي ونيجيريا ؟ أو ازاء هذه الثورات التي علي وشك أن تهز القواعد السياسية في بلدان شمال افريقيا، علي بعد كيلومترات من ايطاليا، أي بالضبط تلك الأرض التي وضع فانون فيها أماله الثورية؟ ومع ذلك، اذا كان طيف فانون لم يكف عن الظهور خلف الأحداث السابقة الأخيرة، فأنه من غير السهل الامساك بدقة بهذا الراهن الذي ينبعث من نصوصه ويربطها بصورة عميقة بعدد من الظواهر الموجودة تحت أعيننا.
وهكذا بعد خمسين عاما من نشر هذا النص، تابع فانون استجوابنا. لم تزل صيحته اليائسة، سخطه، اختياراته الردايكالية ازاء استمرار العنف الاقتصادي والثقافي الذي حكم خلال قرون وقرون ملايين الرجال والنساء بواسطة الكولونيالية والعنصرية، تمتحننا : يدعونا الي اجتياز نصوصه ليس فقط لجني شئ ما من العالم الذي يقابلنا، وانما أيضا لمناقشة هذه النصوص غير القابلة للحجز التي تحدثنا عن راهنيتها المستمرة. لذا نجد أن اعادة قراءة "معذبو الأرض"، لادراك فهم سياسي أكثر فعالية في عصرنا، تكشف حتي اليوم عن كونها عملية مفيدة للغاية.
عالم آخر مختلف
لن تؤدي اعادة قراءة هذا النص، بعد خمسين عاما علي صدوره، الي ممارسة تأويلية وفيلولوجية نقية. ليس الهدف محاولة فهم "ما قاله فانون حقا". من الواضح، منذ البداية، أن طرق قراءة فانون، بعد خمسين عاما، ستكون مختلفة للغاية : خاصة أن كل قراءة سوف تتميز بأولويات، ولن تكون بالتالي سوي تعبير عن موقف نظري وسياسي خاص، ازاء الواقع. وربما كان هذا بالضبط أحد التعاليم الأساسية التي نتحصلها من فانون : لا توجد معرفة أبدا غير موضوعية ولا يوجد علم غير منصف سياسيا. يفترض كل تحليل ثقافي وسياسي عن الواقعة، وكل نص منطوق، موقفا، اختيارا مؤكدا، معسكرا معينا. كان فانون واضحا في هذه المسألة : الخطابات المجردة عن الانسان، عن الانسانية _ مثل هذه الخطابات النمطية عن التقاليد الديمقراطية الليبرالية الغربية أو ظاهرة سارتر وفرويد وميرلو-بونتي الوجودية الأوروبية _ لا تفيد في أي شئ طالما أننا لا نقابل ظرفا انسانيا، مشتركا، وانما نقابل عالما منقسما تراتبيا، انسانا مجردا من انسانيته، أي أن "الاتصال بين الأشخاص" يعوقه العنف الكولونيالي والممارسة العنصرية القديمة لحكومة العلماء، القانونيين، السياسيين والاقتصاديين.
من الواضح أن عالم فانون ليس عالمنا، وانما راهنية كلامه تنشغل بالآثار التي تحققها "أوروبا"، أي التركيب القبيح للرأسمالية والعنصرية. ربحت حركات التحرر الوطني الكثير ولكنها خسرت الكثير أيضا. أو العكس بالعكس. لا يهم. الخياران يقترحان شيئا واحدا : من يحدثنا عن راهنية الأرشيف الفانوني، ومن يضمن لا-تصنيفه بالنسبة للذاكرة والنسيان، وبالأخص سرده عن الصراع من أجل ازالة الكولونيالية، ومشروعه الما بعد كولونيالي، في "أبعاده الثلاثة"، أي طبيعته التمردية، التكوينية والتحررية. في الواقع، تعتبر ازالة الكولونيالية لدي فانون نضالا بكافة الوسائل الأساسية لانتشال الحياة من بين براثن القوي التي تخنقها وتفنيها.
يثيرنا فانون حتي اليوم لأن : 1) لم تزل واقعة وفكرة الامبراطورية تحيا بيننا (لا تفكروا فقط في العراق، أفغانستان، وانما أيضا في قدح آنجيلا مركل وجيمس كامرون ونيقولا ساركوزي وسلفيو برلسكوني للمجتمع المتعدد الثقافات). 2) هذه الواقعة المتعددة الأشكال والعنصرية _ التي بلورها تعايش مختلف أنظمة العمل، مختلف الحقب التاريخية-الثقافية، مختلف التراتبيات ووضع المواطنة _ الذي يعتبر نمط المستعمرات، حسبما وجهة نظر فانون _ تؤسس اليوم عنصرا رئيسيا لتكوين الطبقة في فضاءاتنا المتروبوليتانية. 3) تسعي تطورات تثمين الرأسمالية النيو ليبرالية المعاصرة، بالتركيب بين "التراكم بالاستملاك" و"التحول للاقتصاد المالي" اليوم الي امتلاك وسائل الانتاج وحياتنا أيضا. وهكذا يوجه انسان فانون الكامل _ في مشروعه عن ازالة الكولونيالية واعادة أنسنة الانسانية _ نفسه الي أي صراع حاضر يسعي الي اعادة استعادة الحياة، في كل معركة من معارك الحاضر التي لا تعتبر ببساطة موضوعا عن التعويض الحرفي البائس والوقتي، المادي والهوياتي، وانما عن اعادة بناء الانساني الموحد الجديد، أي الذي يطالب تحديدا بالتسيير الذاتي لكافة المصادر (المادية والثقافية) كحقوق عامة.
تم ترجمة النص عن الترجمة الفرنسية لكامغيه وماري-آنج باتريسيو لمقال ميغيل ميلينو المنشور في جريدة "المانيفستو" (il manifesto) الايطالية، الخميس 18 مايو 2011
ميغيل ميلينو، أستاذ وباحث في كلية الآنتروبولوجيا بجامعة "لورنتال" في نابولي. أشرف علي اصدار الطبعة الايطالية من "كتابات سياسية" لفرانتز فانون (دريف آبرودي، روما، 2006)، وله عدد من الكتب، من أهمها "ما بعد الاستشراق"، وكتاب-حوار مع ستيورات هال".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.