كُتب هذا المقال في منتصف يناير هذا العام عن عمنا خيري شلبي، وأُرسل إلى "بص وطل"، باتفاق مسبق للاحتفاء بذكرى ميلاد الكاتب الكبير خيري شلبي التي تحل في 31 يناير، ضمن سياسة للقسم الأدبي لتكريم رموزنا الأدبية الكبيرة وهم أحياء، وأي احتفاء بأديب يكون عبر أعماله، لذا كان المقال يدور عن روايته "إسطاسية"، ومجموعته القصصية "ما ليس يضمنه أحد".. لكن اشتعلت الأحداث، وانقطع الإنترنت، ولم ير المقال النور وقتها.. وارتأينا وضع المقال اليوم، فوفاة أي أديب غزير الأعمال كعم خيري لا تعني انقطاعه عن الحياة، فكتبه ستظل تنطق بلسانه، فقط لن تنطق بالجديد. إن كان العالمي نجيب محفوظ هو شيخ الحارة المصرية في الرواية؛ فقد نُصّب الكاتب الكبير خيري شلبي شيخًا للقرية المصرية، نظرًا لما أبدعه في أغلب كتاباته المتنوعة عن القرية المصرية. وقد شهد بذلك صاحب نوبل ذاته عندما سُئل عن عدم كتابته عن القرية المصرية؛ فأجاب: "كيف أكتب عن القرية ولدينا خيري شلبي؟". نعم لقد حظي شلبي بمكانة عظيمة للغاية في الأدب المصري عبر تاريخه، بكتاباته الغزيرة والمختلفة في مضمونها وأهدافها ورونقها. ففي يوم 31 يناير أتمّ كاتبنا الكبير عامه 73 عامًا من النضج الفكري، والإنتاج الأدبي الذي أثرى من خلاله الساحة الثقافية بالكثير.
الثقافة هي المعرفة الممزوجة بالكرامة؛ ذلك ما قاله يوسف إدريس، وبالفعل لن تنهض أمة سوى بمثقفيها وبمعرفتهم، وبالقراءة لهم والنهل من بحورهم العذبة؛ فالعمالقة أمثال نجيب محفوظ وبهاء طاهر وخيري شلبي هم بمثابة السراج الذي يُنير لنا الطريق لنسلكه. وكما أن الرسّام تُعبّر عنه لوحته، والمطرب يشفع له صوته؛ فالكاتب تتحدث عنه كتبه. واليوم نتناول بإيجاز آخر أعمال شلبي الأدبية، المجموعة القصصية: "ما ليس يضمنه أحد"، ورواية "إسطاسية". "إسطاسية".. ولا بد لليل أن ينجلي من هي "إسطاسية"، وماذا حدث لها؟ وما هو الليل الذي سينجلي؟ كلها أسئلة تُحاصرك، في تلك الرواية التي صدرت في مطلع عام 2010 عن دار الشروق، ورُشّحت للقائمة الطويلة للبوكر. وإسطاسية هو اسم أرملة المقدّس جرجس غطاس، تعيش في قرية منية الكردي، إحدى القرى النائية بمحافظة كفر الشيخ، ويُقتل ابنها؛ فتضطرم نار قلبها، وتخرج لهيبها مع فجر كل ليلة. تصعد كل يوم على سطح منزلها لتُسلط سهام دعائها على الظالمين الذين قتلوا ابنها. راوي الرواية هو حمزة البراوي، وهو البطل الذي تخرّج لتوّه في كلية الحقوق بتفوق، ويسعى لبثّ العدل الذي تربى عليه؛ ولكنه يصطدم بعائلته. عائلة البراوي "أُسّ" الشر في القرية، ولها تاريخ حافل بالجرائم، وأخذ الحق من الناس قسرًا. ويناقش شلبي -من خلال الرواية- العديد من القضايا؛ أهمها: الفتنة الطائفية، في صورة عبد العظيم عتمان، الذي كان دائم المطاردة والمضايقة للأقباط؛ حتى إنه عندما اشترى العمدة عوّاد البراوي ماكينة الطحين وأشرك معه محفوظ الحلاق ابن إسطاسية، استشاط غضبًا، وندّد بقتل محفوظ انتقامًا منه؛ ولكننا نجد على الجانب المقابل السماحة تبدو جلية في صورة والد حمزة، الشيخ حامد البراوي، الفرع الطيب الوحيد في شجرة عائلة البراوي، والذي خطب ذات مرة في المسجد "منددًا بأمثال عبد العظيم عتمان الجبناء الذين يُسيئون لإخواننا الأقباط أهل السماحة والمحبة"، وعندما وقعت الجريمة اتهمت على الفور إسطاسية، عبد العظيم عتمان في قتل ابنها؛ ولكن يتدخل المقدّس عازر ليرفع التهمة عن عبد العظيم برغم عداوته الشهيرة للأقباط، فقط لإرساء العدل، ولأنه رأى بعينه الحق الذي سيغيّر مجرى القضية. بين تبعات قضية القتل هذه يتحرك بطلنا حمزة بين الشخصيات، وكأنه محقق عتيق يأخذ من هذا اعترافًا، ومن آخر تسجيلًا، ومن ثالث رجاء، وينسج بذلك ثوب القضية كاملًا، وكان في ذلك يستعدّ لتعيينه قاضيًا؛ ولكن تاريخ العائلة الأسود حرمه من ذلك؛ فاشتغل محاميًا مع خاله في طنطا، وهناك تعرف إلى ابنة خاله، وتجد في مثل هذه الفصول الرومانسية العذبة؛ حيث الفتاة المتحررة المثقفة التي تتحدث في كل شيء، فتأسر حمزة برقّتها وانطلاقها، ويعمل بالمحاماة. ومن الشهادات التي كان يسوقها حمزة من أجل كشف النقاب عن قاتل ابن إسطاسية، تستطيع أن تلمح شخصيات حاول شلبي وضعها في النسيج الدرامي، ليسلّط عليها دائرة من الضوء، كذلك الشيوعي الذي اتهمه الناس بالعلمانية وجعلوه كافرًا؛ وذلك العائد من السعودية مُحمّلًا بالنقود والمظاهر الإسلامية الزائفة، وهذا المتأمرك خارجيًا، والحكومة التي تغطّ في فساد عظيم. "الجميع فاسد من القمة إلى القاع، وزبالة الطوابق العليا تُغرق السلم، وتضاعف حجم النتن فوق درجاته إلى أن يأتي يوم -لعله قريب جدًا- تندفن فيه العمارة كلها تحت زبالتها؛ فتأكل الزبالةُ الزبالةَ؛ فنحن جميعًا، البلدة هذه كلها، كائنات وُلدت في الزبالة وفيها تعيش".. هذه إحدى جمل الرواية، وهذا ما أراد خيري شلبي أن يصل إليه. فبين كل الشخصيات الفاسدة في الرواية؛ سواء من عائلة البراوي، أو عائلة أبو ستيت شركاء مكنة الطحين، تجد أن عدالة السماء قد أعلنت عن نفسها، والليل حالك السواد قد بدأ في الانفراج، وكأن دعوات إسطاسية اليومية التي كانت تؤرق أهل البلد وتُشعرهم بالذنب قد استجابها الله فحلّت اللعنة على العمدة وعشيرته. "ما ليس يضمنه أحد".. مجموعة العلاقات الإنسانية 19 مجموعة قصصية، هي آخر أعمال الكاتب في فن القصة، وصدرت عن دار أخبار اليوم في منتصف عام 2009، وبها يغوص خيري شلبي في عوالمه الخاصة التي يجيد رسمها. وحاول في العديد من القصص تناول صور مختلفة لشكل العلاقات الزوجية؛ فتارة تجد المرأة التي تجعل زوجها يكره حياته وما فيها كما في قصة "نفايات ذاتية"، وفي "شفاء الغل" تلمح المرأة الخائنة، التي ترتّب مع عشيقها للإيقاع بزوجها وإيداعه السجن؛ فتشتعل الأحداث، كما نجد الوفاء الأنثوي في أبهى صوره داخل قصة "مقام الضوء"، والتي تحكي عن تلك المرأة التي تزوجت رجلًا معدمًا؛ لأنه فنان.. استشعرت مدى عظمة فنّه؛ فعشقته وظلّت وفيّة له حتى بعد موته. كما أن روح القرية لم تغِب كثيرًا عن حكايات المجموعة، وظهر ذلك جليًا في قصة "المندل"، التي تطرّق بها للخرافات التي تُسيطر على عقول الكثيرين في فكرة الأحجبة والأعمال ووجود الجن. وأما قصة المجموعة الرئيسية "ما ليس يضمنه أحد"؛ فعنوانها الرئيسي "أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد"؛ حيث التُرَبي الذي يبيع تربة واحدة لشخصين، برغم وجود مالكها، رغبة منه في تحصيل المزيد من الأموال، وتقع المفاجأة التي لم ترِد على خاطره، ويموت أصحاب التربة الثلاثة دفعة واحدة؛ ولكنه ب"فهلوة" المصريين يخرج من مأزقه. لقد صال كاتبنا وجال بين عشرات من الشخوص والأماكن والحكاوى، نفذ بها إلى أعماق المجتمع المصري وتناقضه، الذي يصفه في قصة "العفاريت التي تسكننا" قائلًا: "الحقيقة يا ولدي أننا قوم معطوبون: نقوم بالواجب ثم نُفسده ب"المنظرة"، نؤدي الفرض ثم ننقضه في الحال بالخطيئة! نحن قومٌ زائفون مع الأسف، نتحلى بالفضائل لنغطّي زيفنا". عندما سألت صديقي العزيز لماذا أنت متيّم بخيري شلبي، أجابني في بساطة: "لأنه يكتبني"، نعم فقد اشتهر بالكتابة عن البسطاء والتعبير عن أحوالهم، ويظهر ذلك حتى في بعض الألفاظ العامية التي يستخدمها بحنكته المعتادة. خيري شلبي، الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية، له أكثر من 70 مؤلفًا، ومن أشهر رواياته: "السنيورة"، "الأوباش"، "الشطار"، "الوتد"، "العراوي"، "ثلاثية الأمالي" (أولنا ولد - وثانينا الكومي - وثالثنا الورق)، وقد قُدّمت أعمال عديدة له من قبلُ على الشاشة مثل "الوتد"، و"وكالة عطية". وتمّ ترجمة أعماله لأكثر من خمس لغات.