فوجئت أمس بتلك العبارة مكتوبة في Status أحد أصدقائي على Facebook بنفس الطريقة سالفة الذكر, وترجمتها للمحرومين من نعمة قراءة الفرانكو آراب "أنا محتار.. أبقى عربي ولّا مصري؟". فورًا أرسلت له تعليقًا يقول: "تبقى عربي ومصري واللي يخالف أخلاق العروبة هو اللي يغادرها مش إنت!".
فللأسف، فور وقوع أحداث الخرطوم 18 نوفمبر وجدت "زفة بتجريسة" للعروبة -بالمعنى الحرفي للكلمة- باعتبار أن انتماءنا العربي هو السبب في ما جرى لنا.. وأنه "منك لله يا عبد الناصر خليتنا محسوبين على العرب وشيّلتنا همهم!".
رغم تحفظاتي الشخصية على كثير من محتويات عهد عبد الناصر؛ إلا أني لا أراه أخطأ في توطيده روابطنا بالدول العربية؛ فتلك الخطوة كانت -بحق- بعيدة النظر؛ لأنها كانت السبيل الوحيد لتستطيع مصر التنفس دون أن تختنق تحت إبط الكتلة الشرقية أو تكتم ذراع الكتلة الغربية على أنفاسها! الحل الوحيد خارجيًا كان أن تنتمي مصر لتكتل قريب لثقافتها، وأعتقد -والأمر لا يحتاج عبقرية- أن الكتلة العربية هي صاحبة العناصر المشتركة الأكثر مع مصر!
نعود لموضوعنا.. الجزائريون أخطئوا! بل أجرموا! ونعم أنا هنا أعمم؛ لأن ما جرى اشترك فيه الجميع؛ إما بالتحريض أو التقصير أو التدبير أو حتى الصمت، والصمت على الجريمة مشاركة فيها! ولأكون منصفًا، فقلّة من مثقفي الجزائر حذّروا أبناء شعبهم قبل المباراة من أن يرتكبوا أية حماقات في حق إخوانهم المصريين وفي حق أنفسهم! لكن هل معنى هذا أن نلخّص أسباب ما جرى في حقنا في سبب واحد فقط هو أننا "عرب"؟
صحيح أن على ضحية العدوان -أي عدوان- محاسبة نفسه؛ لمعرفة دوره في وقوع الاعتداء عليه؛ لكن هذا شيء وترك كل الأسباب المنطقية والتعلق بسبب أبعد ما يكون عن العقلانية شيء آخر؛ فالكفر بالعروبة يشبه تمامًا ما جرى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من انتشار بعض الأفكار الإلحادية من نوعية "ما جرى لنا جرى لأننا حسبنا أن الله لا يرضى بالشر، وطالما أنه سمح لويلات الحرب بالوقوع فلن نعبده بعد الآن!" (وهي عبارة سمعتها من صديق فرنسي ملحد!) على طريقة: "هه! مش لاعب"!.
ثم إن تركيزنا على أن انتماءنا العربي هو السبب، واعتبار التنصل منه حلاً يفتح الباب بعد ذلك لمزيد من التنصل من مكونات هويتنا؛ فاليوم ولأننا تصادمنا مع دولة عربية نجد من يقول: "لسنا عربًا، نحن أفارقة!" وغدًا لو تنازعنا مع دولة إفريقية لنجدن من يقول "لسنا أفارقة نحن مسلمون"، ولأن الصدام مع دولة إسلامية -ليس مستبعدًا- فلربما ينتهي بنا الأمر وقد تنصلنا من كل انتماءاتنا المعروفة وانتسبنا لقوم يأجوج ومأجوج!
وما يثير الغيظ أيضًا نغمة "هؤلاء القوم يكرهوننا لأننا أفضل منهم!" أو "لقد أحسنّا إليهم ولهذا فهم يبغضوننا"! عفوًا لكن على أي أساس تستند تلك البارانويا؟ إن مجرد التفكير بهذا الشكل ينفي حقيقة أننا أفضل منهم، فتلخيص وجود ضغينة من فئة -كبيرة أو صغيرة- من شعب تجاه شعب آخر في أن الشعب المكروه أفضل من الشعب الكاره، هو بالتأكيد سبب نافٍ للأفضلية!
ثم إن الطريف أن تلك الفئة التي ينتمي إليها المشجعون الجزائريون الذين اعتدوا علينا فئة تمثل ثقافتُها رفضًا للعروبة؛ فهي تلك الفئة المتأثرة بالتيارات التغريبية التي تتعامل مع العروبة باعتبارها من عوامل التأخر، وتنادي بالالتصاق ب"ماما فرنسا" للسير في ظلها في طريق الرقي والتقدم، أي أن الصورة كالآتي: الفئة التي ارتكبت الجُرم الذي ينادي أنصار فكرة "لا للعروبة" لدينا بمبدئهم لأجله، هي في الأساس فئة "ملعوب في عروبتها" أي أن العروبة خارج اللعبة كلها، هذا إن كانت قد دخلتها أصلاً! ولو كانت الدولة التي واجهتها في نهائيات التأهل لكأس العالم دولة غير مصر لكانت قد فعلت المثل. هؤلاء قوم -أعني مرتكبي العنف- لا يهمهم عنفهم ضد مَن طالما أن "مَن" هذا يقف في طريقهم!
وتعالوا نتخيل لو انصاعت الطبقة المصرية الحاكمة لنداءات التخلي عن العروبة، ثم احتجنا يومًا أن نعود للبيت العربي لاعتبارات السياسة والاقتصاد والثقافة، وأنا واثق أن ذلك سيحدث؛ لأننا نعيش مشكلة تخبط في الهوية منذ نحو 57 سنة، ألن نصغر في أعين الآخرين؟ سنبدو كأطفال يلعبون "شد الكُبس.. كهربا".. وبعد أن كُنا همزة الوصل بين الثقافتين العربية والإفريقية سنعود لنجد قطر والسعودية تتحدثان في الشأن اللبناني والعراقي والفلسطيني، ومن ناحية أخرى يتحدث العقيد القذافي -ملك ملوك إفريقيا- في شئون القارة السمراء، وهم بالتأكيد لن يرضوا عندها أن تقاطعهم مصر قائلة: "إحم.. نحن هنا"، وسيقولون لنا: "اجروا العبوا بعيد!" ومشكلة مصر التاريخية أنها -بطبيعتها- خُلِقَت قائدة، والقيادة مفروضة عليها؛ لأنها إن لم تَقُد قِيدَت، والقائد إذا قِيد أهين.. وهي كالملوك، إما في القصر وإما في القبر.
نحن أساسًا نعاني محاولات خارجية لتهميشنا، فلا تنقصنا محاولات داخلية أيضًا، وربما يبدو للبعض تساؤل صديقي في بداية المقال مجرد عبارة تافهة من شاب حديث السن؛ لكنه ليس كذلك! إنه كارثة! أن يبدأ شاب في مرحلة تكوين الهوية في التفكير في فصل الهويتين المصرية عن العربية كأنهما لا تتوافقان!
صحيح أن ثمة واقعا يقول إن "عروبتنا ليست على ما يرام"؛ ولكن هذا بسبب سوء "تطبيق" العروبة، أو عدم تطبيقها أحيانًا، لا بسبب وجودها في حد ذاته.
ثم إننا لو اعتبرنا ما جرى يوم 18 نوفمبر مبررًا ل"غربلة" العرب، فبالتأكيد لن يكون الطرف المستبعد هو مصر التي كانت من الأساس بوابة دخول العروبة للمغرب العربي كله! ولا يوجد منطق في العالم يقول أن أكون في بيت أخي ويأتي ابن عمي ويضربني فأغادر بيت العائلة كله!
لا.. بل إن كان لا بد من مغادر فليكن المخطئ لا المُعتَدَى عليه، وليكن الفرع لا الأصل.. نحن عرب.. فإن كان من معترض على ذلك فليرحل هو، لا نحن!