لاينكر منصف أهمية نهر النيل بالنسبة لمصر فقد نشأت منذ فجر بين الإنسان المصرى ونهر النيل علاقة تفاعلية حيث ساهم نهر النيل فى قيام الحضارة المصرية على ضفافه كما نقل لمصر تربتها الخصبة ، فالنيل ببساطة هو مصر ومصر هى النيل ، بدون النيل العظيم تتحول مصر إلى صحراء جدباء . ومع تفاقم أزمة مياه النيل والتى بلغت ذروتها بقيام إثيوبيا بالبدء فى بناء سد النهضة فى التطبيق العملى الأول للإتفاقية الإطارية لمياه النيل والتى تعرف بإسم (( إتفاقية عنتيبى )) والتى وقعت عليها أديس أبابا مع خمسة من دول المنابع وهى أوغنداوكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى بداية من 14 مايو من عام 2010 ، بدأ البعض فى طرح السيناريوهات البديلة للتعامل مع الأزمة التى تهدد أهم مورد بالنسبة لمصر وسر وجودها وهو نهر النيل ، ومن بين هذه السيناريوهات برز مشروع ربط نهر النيل ب (( نهر الكونغو )) ويقوم على نقل مياه نهر الكونغو الذى يلقى فى كل دقيقة بنحو 3 ملايين متر مكعب من مياهه فى المحيط الأطلنطى دون أدنى إستفادة منها ، وللحق فقد شغل هذا المشروع الناس وتحول إلى (( مدغدغ )) لمشاعرهم وجبهة جديدة لحماية نيلهم العظيم ، ولكن وللأسف الشديد فإن هذا المشروع يعد مشروعاً (( وهمياً )) وبإمتياز ولكن لماذا ؟! القاصى والدانى يعلم أن أزمة المياه الحالية انطلقت شرارتها الأولى من (( كينشاسا )) عاصمة الكونغو الديمقراطية فى إجتماع وزراء مياه دول حوض النيل فى مايو 2009 وخلال هذا الاجتماع طالبت دول المنابع جميعها بإستثناء إريتريا التى تتمتع بصفة المراقب وتدعم حقوق مصر فى مياه النيل بأن توقع دول الحوض على الاتفاقية الاطارية لمياه النيل التى اطلق عليها فيما بعد (( اتفاقية عنتيبى )) وتأجيل البنود التى تطالب بها مصر والسودان الى وقت لاحق – وهى بنود الامن المائى والاخطار والاجماع وهى البنود التى تحفظ حقوق مصر والسودان فى مياه النيل – … وصدم وفد السودان من مطالب دول المنابع لدرجة انه غادر الكونغو بعد ساعة من بدء الاجتماع … وظل الوفد المصرى برئاسة وزير الرى الاسبق الدكتور محمد نصر الدين علام حاضرا الاجتماع رغم دهشة دول المنابع …. واعلن رفض مصر لمطالب دول المنابع … وتم ترحيل الخلافات الى الاجتماع الذى عقد فى الاسكندرية فى يوليو 2009 ، وفى هذا الاجتماع تصاعدت الخلافات بين دول المنابع من ناحية ومصر من ناحية اخرى وسط رفض دول المنابع ادارج البنود الثلاثة التى تطالب بها مصر والسودان وفشل الاجتماع فى حل الخلافات ، وتم ترحيلها مرة آخرى الى اجتماع شرم الشيخ فى ابريل 2010 وفى هذا الاجتماع فشلت كل الجهود الساعية لتطويق الخلافات بين دول حوض النيل ، واصدرت دول المنابع وكان من بينها الكونغو انها ستوقع على الاتفاقية الإطارية لمياه النيل منفردة من دون مصر والسودان وهى الإتفاقية التى لاتعترف بحقوق القاهرة والخرطوم فى مياه النيل ، وقد تم بالفعل التوقيع عليها فى 14 مايو 2010 فى مدينة عنتيبى الاوغندية حيث وقعت كل من اثيوبيا واوغندا وراوندا وتنزانيا … ثم تبعتها كينيا بعد اسبوع … وبوروندى بعد 7 اشهر .. واعلنت الكونغو انها مع دول المنابع وان توقيعها على الاتفاقية مسألة وقت ليس إلا … وبالتالى فإن الكونغو الديمقراطية إحدى دول منابع النيل والتى تساهم بالجزء الأكبر من مائية نهر الكونغو كغيرها من دول المنابع لا تعترف بحقوقنا فى مياه النيل فكيف توافق على نقل مياه نهر الكونغو إلى نهر النيل !! وهناك إعتبار آخر يجعل مشروع ربط النيل بالكونغو (( مستحيلاً )) .. وهو أن القانون الدولى يمنع نقل المياه من حوض نهر دولى إلى حوض نهر آخر ، بالتالى لا يصح قانوناً أن يتم ربط النيل بالكونغو ، فضلاً عن الصعوبات التمويلية الإجرائية والفنية التى ستواجه هذا المشروع الذى يتطلب رفع المياه إلى مستوى المرتفعات التى تفصل بين حوض نهر النيل وحوض نهر الكونغو وهو مايتطلب مليارات الدولارات . .. الخلاصة أن طرح هذا المشروع غير مفيد بقضيتنا العادلة فى (( مياه النيل )) بل يضر بها ويضربها فى مقتل ، فإلى جانب أنه يلفت الإنتباه عن قضيتنا الأساسية وهى (( مياه النيل )) إلى قضية عبثية لا طائل من ورائها وتدخل فى إطار (( السفسطة النظرية المملة )) ، فأنها يمثل خطورة بالغة على حقوقنا الطبيعية والتاريخية فى مياه النيل ، فإسرائيل تتواجد فى دول منابع النيل وبقوة ونفوذ بالغ فى دول منابع النيل وخاصة فى إثيوبيا والكونغو الديمقراطية ، هنا قد تجد إسرائيل ضالتها فى هذا المشروع الوهمى العبثى المسمى بمشروع (( ربط )) النيل بالكونغو ، فإسرائيل طلبت من مصر مراراً وتكراراً أن تشترى منها 1% من حصتها من مياه النيل ، وكانت مصر تقابل الطلب الإسرائيلى بالرفض وإن كان الرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات قد بدأ فى نهاية حكمه بمد قناة كان مخططاً لها أن تصل إلى القدس حاملة مياه النيل مروراً بصحراء النقب الإسرائيلية ، إعتقاداً منها أن هذا المشروع سينشر السلام فى ربوع المنطقة ، لكن هذا المشروع توقف بعد إغتيال السادات على يد الجماعات المتطرفة عام 1981 ، ولكن الآن فالفرصة مناسبة لإسرائيل فقد تطلب من الكونغو الديمقراطية – حليفتها التقليدية منذ أن كانت تحمل إسم زائير – أن توافق لمصر على بدء مشروع نهر الكونغو ، وفى الوقت ذاته تطلب إسرائيل من إثيوبيا أن تشترى منها جزء من مياه النيل لنقله عبر الأنابيب عن طريق البحر الأحمر وصولاً إلى إسرائيل ، ونقل مياه النيل عبر البحر الأحمر أيسر من نقلها من الكونغو إلى النيل ، وبالتالى ستنجز إسرائيل مشروعها قبل مشروع ربط الكونغو بالنيل ، وحينها وبكل أريحية ستعمل إسرائيل على وقف مشروع ربط النيل بالكونغو كما حدث من قبل أن ساهمت فى وقف العمل فى قناة (( جونجلى )) بجنوب السودان فى ثمانينيات القرن الماضى ، حينها سنفقد مياه النيل ، ونساهم فى تقنين نقل مياه الأنهار الدولية من حوض إلى آخر بل وتسعير المياه . ماسبق ليس تهويلاً بل هو سيناريو متوقع حدوثه ، وعلى صانع القرار المصرى أن يوجه جهوده للحفاظ على حصتنا من مياه النيل من خلال إستخدام كافة الوسائل ، وطرح مشروعات قابلة للتنفيذ فى إطار المنطق والقانون ومنها مثلاً إستكمال قناة جونجلى وتطهير بحيرة نو من المستنقعات وبما يكفل المحافظة على حصتنا من مياه النيل بل وزيادتها .