لماذا لا تتكرر ثورة الياسمين في تل أبيب؟ سؤال طرحه أحد الأصدقاء أثناء متابعته لتداعيات الموقف في تونس بكل ما فيه، بدأ من تولي محمد الغنوشي لرئاسة البلاد، ثم تنحيته لصالح فؤاد المبزّع -رئيس مجلس الشعب- ثم تكليف الغنوشي بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، ثم تحديد مهلة 60 يوما من أجل إجراء انتخابات رئاسية جديدة، ثم انتشار العنف والسرقة والبلطجة من ميليشيات النظام الغابر كانتشار النار في الهشيم. وبقدر ما كان السؤال صادماً بقدر ما كان يدعو للتأمل والتفكير، لماذا لا تتكرر ثورة مثل ثورة الياسمين في شوارع تل أبيب وبيسان وعكا والناصرة وغيرها؟ وإذا كنت تتساءل في طيات نفسك عن الأسباب التي يمكن أن تدعو شعب دولة مفترض فيها أنها دولة ديمقراطية مثل إسرائيل إلى تنظيم انقلاب شعبي ضد حكومتهم.. فأعتقد أن الحافز موجود. في شوارع إسرائيل ينتشر الرعب في نفوس المواطنين يوما بعد الآخر، رعب صنعته صواريخ الجناح العسكري لحركة حماس التي تدكّ رؤوسهم بين الفينة والأخرى؛ انتقاماً لغارة إسرائيلية هنا أو اعتقالات هناك، رعب بحكم عمليات تفجيرية لا ينقطع دويّها بين اليوم والآخر. الشريحة المثقفة في إسرائيل التي تحمّل الحكومة مسئولية عدم الاستقرار الأمني هذا هي شريحة ليست بقليلة، والإحساس العام بين الجميع داخل إسرائيل بأن التعامل الحكومي العنيف مع الفلسطينيين العزّل يكون سببا مباشراً لردّات فعل انتقامية لحركة حماس ضد المدنيين أيضا. في إسرائيل طائفة علمانية واسعة ترفض فكرة النزعة الدينية الملحقة بالدولة الإسرائيلية، والتي باتت واضحة في تصريحات وخطابات الحكومات الإسرائيلية المتوالية عبر مرّ السنين. في إسرائيل جماعات مضادة للمشروع الصهيوني بالأساس، ويتنكرون لوعد الله المزعوم لبني إسرائيل بالعودة بعد الشتات في أرض الميعاد (يقصدون فلسطين)، هذه الفئة هي الأخرى صوتها مسموع وكلمتها محترمة لدى منظمات المجتمع المدني الدولية، وترفض بدورها فكرة الدولتين، وتدعو إلى دولة واحدة مدنية متعددة الأعراق والديانات، يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون جنباً إلى جنب، ويلعنون الحكومة الإسرائيلية صباح مساء، ويلعنون تصرفاتهم التي -كما يظنون- تسبّبت في بانوراما "انتحارية" فلسطينية في شوارع إسرائيل. في إسرائيل تفرقة عنصرية وعرقية قاتلة، يمقت فيها اليهود المسلمين، وينفر الإسرائيليون من العرب، وحتى داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي البحت هناك تفرقة عنصرية بين يهود أوروبا الشرقية (أشكيناز) واليهود المزراحيون وهم يهود إفريقيا، وقد يصل أحيانا التمييز إلى شكله المعلن، وربما انتشار الأحزاب القائمة على أساس ديني في إسرائيل مثل إسرائيل بيتنا وحزب شاس أكبر دليل على هذه التفرقة. ففي استطلاع رأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي أن ما يقرب من نصف الإسرائيليين اليهود لا يرغبون في العيش بجوار العرب. وتبيّن أن أكثر من ثُلُث الذين شاركوا في الاستطلاع لا يرغبون في العيش إلى جوار أجانب أو أشخاص مصابين بمرض عقلي. في إسرائيل هناك 11 مليون فلسطيني غاضب مستعدون في أي وقت أن يهبوا هبة رجل واحد، كما سبق أن فعلوها في انتفاضة 1987 و 2000 وقد يكررونها من جديد. إذن بعد كل ما أسلفنا نعود إلى التساؤل الذي طرحه صديقي أعلاه.. لماذا لا تتكرر ثورة الياسمين في إسرائيل ما دامت تعاني كل هذه الشقوق السياسية والعنصرية والدينية؟ إن الشعوب لا تخرج في ثورات غضب من أجل السياسة، لم تكن السياسة يوماً محرّكاً للشعوب، لم تكن يوماً هي بطارية الانتفاضات والانقلابات، كانت دائماً عامل مساعد على الاشتعال مثل الأكسجين، ولكنها لم تكن يوما مادة محرقة مثل الوقود.. وإليكم قائمة بوقود الانقلابات الشعبية.. الخبز والزيت والسكر والبطالة هي وقود الشعوب، من أجل أشياء مماثلة يخرج الناس إلى الشوارع، من أجل أشياء كهذه تنهار الحكومات ويهرب الرؤساء، تونس الخضراء خرجت إلى الشارع من أجل خبزها الضائع وبطالة بوعزيزي، وكانت هذه هي المادة المشتعلة، واشتملت مطالبهم فيما بعد التخلّص من الفساد والنظام الظالم، وكانت هذه هي العوامل المساعدة على الاشتعال، وفي انتفاضة 1977 في مصر خرج الشعب من أجل خفض أسعار السلع الأساسية التي رفع عنها الدعم، أي حرّكهم خوفهم من جوع أبنائهم وعجزهم عن إسكاته، وحتى في الانتفاضات الشعبية التي كانت تهبّ في وجه الاحتلال الإنجليزي في مصر كان مردّها بالأساس إلى إحساس ظلم عارم من التحكّم البغيض في قوت المصريين سواء في الأراضي الزراعية، أو من خلال تحكّم شركة الهند الشرقية، في تجارة المصريين وحتى في الأنواع التي يتاجرون بها. لكن في إسرائيل البطالة ليست مستفحلة كما هو حالها في العالم العربي، الديمقراطية ليست حلماً يبحثون عنه نياما ومستيقظين كما هو حالنا، بل هي حقيقة وواقع وشمس يستمتعون بدفئها يوماً بعد الآخر، لديهم عندما يخطئ الرئيس موشيه كاتساف يحاسَب، ولكن في الوطن العربي يخطئ الرئيس فيصير خطؤه نافلة يحتذي بها أتباعه.. فسادا بفساد وسرقة بسرقة! في إسرائيل لديهم قدرة عبقرية على جعل الغضب الشعبي من الحكومة الإسرائيلية التي تسببت لهم في صواريخ حماس الانتقامية إلى غضب مضادّ ضد كل ما هو فلسطيني عربي مسلم حمساوي، تسويقهم لمعاناة إسرائيل الزائفة دولياً حشدت خلفهم الدعم، جهدهم الحقيقي والصادق في بثّ الأمن في شوارع إسرائيل كلها تجعل من بقائهم في أماكنهم مرهونا بالعمل ولا شيء غيره. في إسرائيل لا يسمحون لابن علي جديد بأن يكبر ويتسمّن من أموال ضرائبهم وعرق شعوبهم، بل يطهّرون جروحهم الفاسدة أولا بأول. في إسرائيل لا يحتاجون لثورة الياسمين كي يغيّروا.. في إسرائيل التغيير لديهم يبدأ من حصة التعبير، أما في الوطن العربي فالتغيير لا يحدث إلا بإراقة الكثير من الدماء.