لا عجب في إنني أحب ذلك القارب حبا جمًا، فقد كان طيلة سنوات عمري الثمانية عشر داري و عملي وقوتي. لم نكن أسرة كبيرة العدد، فقد كنا نتكون من أبي وأمي وأنا وأخي الأصغر، فغالبا الصياد الذي يكون قاربه هو داره، لا ينجب عدد كبير من الأولاد -إلا القليل منهم- حيث أن القارب لا يسع عددا كبيرا. اعتقد انه لا يوجد لي مجالاً كبيرًا لأصف لكم بدقه قاربي وحياتي به، فداخله مقسم إلى جزأين أي ما يشبه الغرفتين، احدهما لأبي وأمي والآخر لي أنا وأخي الذي يصغرني بخمس سنوات، ولكن ما يميز داخل القارب هو كثرة ما به من أغطيه، فالمساء باردًا دائمًا هنا، وأحيانًا شديد البرودة، وخاصة في فصل الشتاء وبعض أيامه القارصة البرودة، أما الأغطية ذاتها فغالبا ما تكون من تلك "الأكلمة" المصنوعة من قصاصات الأقمشة، والآسرة (الأسرة) ما هي إلا أقفاص كبيره من الجريد، يوضع عليها الحاشيات التي يكون لها دائمًا رائحة مميزه، وهي رائحة محببة إلى نفسي بشده، إنها الرائحة تجلبها رطوبة الجو التي تملئ الحاشيات حتى إنها من شدة الرطوبة المشبعة بها تصبح صلبة مثل الحجر مع الوقت، وأنا لا يزعجني هذا في شيء، على العكس تمامًا فالقد (فلقد) أعتدت عليه منذ نعومة أظافري، أما ملابسنا فتوضع في صناديق مثل صناديق الحواة، أو الصناديق القديمة التي كانت تحل محل الصوان الحالي. لقد استرسلت معكم كثيرا في وصف ذلك القارب، مع إني لم يكن في نيتي هذا مطلقًا، وربما حدث ذلك نتيجة لحبي الشديد له حتى إنني اشعر انه كقطعة مني، ولكن الذي لم أقوله وربما تبينتموه انتم من حياتي تلك، هو أن معظم وجباتنا تقريبا تكون من السمك، حقًا إننا نحظى ببعض الأطعمة الأخرى ولكن السمك غالبا ما يطغى على طعامنا أو هو ما يميزه، حيث أن الباقي من السمك الذي لا يستطع أبي بيعه في السوق يصبح طعامًا لنا وهذا على سبيل التوفير. بالمناسبة أنا طالب في السنة الأولى بكلية الآداب، نعم أنا طالب لا تتعجبوا!! وأخي أيضا طالب في السنة الأولى بالمرحلة الإعدادية، وليس لأننا نقطن داخل قارب ونعيش معظم حياتنا داخل النيل الحبيب، يمنعنا هذا من أن نمارس حقنا في العلم والتعلم، في الواقع إن هذا لا يسرى (يسري) على جميع الصيادين ولكن من يريد التعلم فله ذلك، ونحن لنا مرسى ترسو عليه القوارب في المساء، وفي الصباح يذهب أخي إلى المدرسة واذهب (وأذهب) أنا إلى الجامعة، وربما عند عودتنا لا نجد القارب في المرسى، فهذا شيء قد تعودنا عليه، وفي هذه الحالة اجلس (أجلس) أنا وأخي في المرسى، ربما للمذاكرة أو مع بعض الصحبة من أبناء الصيادين أمثالنا، وعندما ترسوا القوارب يذهب كلا إلى داره.
أما عن نفسي أنا، فقد كانت رفقتي دائما عند عم "شحاتة" بائع البطاطا -والذي يقف على كورنيش النيل أمام المرسى يبيع البطاطا إلى (ل) الذاهب والأتي (الآتي) وتلك الفتاة المسماة "بشرى" -ولا ادري حقا أهي بشرة (بشارة) خير أم شر- فقد عرفتها منذ زمن، أيام كان يقف أبيها عم "عرفه" بعربة يبيع فيها الترمس بجوار عم "شحاتة" وهذا قبل وفاة الأول طبعا، أما الآن فقد اكتفت "بشرى"بما يسمى "غربال" تضع عليه الترمس وتضعه على طرف عربة البطاطا عطفًا من عم "شحاتة" عليها. لا ادري لماذا تعودت صحبة هذه الفتاه، على أنها فتاة هستيرية جاهلة لا تعرف من الدنيا إلا الترمس والطعام والنوم في تلك العشه العجيبة التي ورثتها من أبيها، والثرثرة وتلك الخزعبلات التي تعشش في عقلها، ربما من الوحدة مع الفقر الشديد والجوع أحيانا كثيرة. وربما كانت علاقتي بها ناتجة من الشفقة عليها، إلا أنني حاولت مرارًا وتكرارًا أن أتجنبها دون فائدة. على أية حال فصحبتها لا تضيرني في شيء، على العكس فهي خفيفة الظل ولا تكف عن الثرثرة من لحظة أن تلقاني حتى تتركني إلى تلك العشه العفنة التي تقطن بها، ومن زمن بعيد وهي لا تكف عن تلك الروايات التي ترويها عن الأشباح التي تراها في تلك العشه، أما أنا فدائمًا ما اضحك منها ومن تلك الروايات التي ترويها، وقد تعودنا منها هذا أنا وذلك العجوز "شحاتة" فهي تروي لنا قصص كثيرة مشوقه عن هذه الأشباح التي تقطن معها تلك العشه، والتي تجعلها لا تنام ليلاً، ولذلك فهي تجلس معنا حتى وقت متأخر من الليل ولا تنام إلا في الصباح بعد بزوغ الشمس ولا تعمل سوى في فترة المساء. في هذه الليلة بالذات أتت "بشرى" تنتفض، ولما سألتها عن سبب هذا الرعب الشديد الذي هي به قالت في فزع شديد: أصلي شفت النهاردة حاجه تموت من الخوف. ورد عليها عم "شحاتة" بحنوه الدائم: - شفتي إيه يا بت يا (بشرى)؟ ردت وهي ما زالت تنتفض: -مش قادرة احكي يا عم "شحاتة". ثم أردفت: وحياة النبي يا عم "شحاتة" سبني أنام النهارده فوق عربية البطاطا، أصل أنا ميتة من الخوف. ورد عليها الرجل بطيبته: -طيب احكي يا "بشرى" شفتي إيه؟ ردت وهي ترتعش: - أنا دخلت العشه زي كل يوم واخده معايا حتة بسطرمة وبيضتين، قلت أتعشى بيهم زي العادة، ولكني أول ما دخلت شفت أخونا البعدا. وأخذت تنتفض، فأحثها (حثها) عم "شحاتة" على الإسترسال (الاسترسال) بقوله: -هه شفتي إيه يا بت؟ -شفت واحد فيهم واخد الطاسه بتاعتي وحاطت فيها شوية زيت بيقدح على النار، و وقفت أراقبه من بعيد. وأردفت وقد زاد رعبها: أنا أصلي ما اقدرش ادخل العشه إلا لو خرجوا هما منها. ثم استطردت حديثها بقولها: - أنا شفته واقف بيقطع حاجه على الترابيزه بتاعتي بسرعة كده ويرميها في الزيت ويطلع من الزيت ويحط في الطبق. والتفتت في سرعه وذعر وقالت: - عارفين لما أتعدل شويه وشفت اللي بيقطعه لقيته بيقطع إيه؟ ونطقت أنا وعم "شحاتة" في نفس واحد: - إيه؟!! ردت وهي ترتعد بشده: شفته بيقطع صوابع أيده. وشهقنا في دهشة، فأردفت وهي تنتفض: - والغريب انه بمجرد ما يحطهم في الزيت يتعدل وألاقي صوابعه رجعت سليمة تاني زي ما كانت بالضبط ، ويعيد التقطيع من جديد ويحط في الزيت وترجع صوابعه زي ما كانت تاني وأنا واقفة ومتسمرة ومش قادرة أتحرك من كترة الرعب والخوف وراح يغمى علي. فجأة!!.. التفت وشافني ولقيته خارج علي بالسكينة، طلعت اجري لغاية هنا. ثم أكملت في استعطاف شديد: - أنا خايفه أوي يا عم "شحاتة". ورد عليها "شحاتة"في استهجان: - يا بت أنت مش هتبطلي الجنان بتاعك ده. ونهرها قائلا: - امشي بقى بلاش جنان. فاعتدلت موجهه حديثها إلي: - طب وحياة النبي يا سي "سعد" ممكن تعمل لي حتة البسطرمة دي ومددت يدي قائلا: - هاتي يا "بشرى". وتخطيت درج المرسى ذاهبا إلى القارب، حيث لا يوجد احد به، فقد كان أبي وأمي وأخي يحضرون عُرس في احد القوارب الواقفة في المرسى، وبمجرد أن وضعت قدمي في القارب أذا ب"بشرى" تمشى ورائي الهوينى وشعرت برعشة تسير في جسدي كله، والتفت فجأة قائلا لها: - أنت جايه ورايا ليه؟ شهقت قائله: - الله خضتني يا سي "سعد". رددت متوجسًا: - طيب خليك عندك، وأنا هأعملك البسطرمة وأجي.
دخلت إلى القارب مسرعًا وأشعلت الموقد ووضعت فوقه الطاسه ووقفت منصتًا لما يدور في الخارج، ولا أخفي عليكم أن داخلي يرتعد متوجسًا، فرفعت رأسي رأيت عم "شحاتة" فتسلل إلى نفسي بعض الاطمئنان، ولكن أين "بشرى"؟!! رجعت أدراجي لأكمل إعداد البسطرمة بسرعة، وارتفعت دقات قلبي وأنا اسمع وقع أقدام فوق رأسي على ظهر القارب تستعد لدخوله، وأوهمت نفسي بأنها ربما تكون أمي عائده من العُرس، ولكنني ألتفتت لأجد بشرى تقف خلفي تمامًا وتحدق بي.
ما هي إلا دقائق حتى صرخ عم "شحاتة" عندما رأى "بشرى" خارجه من قاربي وهي تصرخ بجنون وأنا من ورائها وما زالت أصابعي لم تكتمل بعد!!!
مديحة جعاره
* الكلمات بين قوسين تصحيح لبعض الأخطاء اللغوية. التعليق:
الأساس في هذه القصة هو الغرائبية (أو الفانتازيا) المتمثلة في السطر الأخير، حيث يتماهى سعد مع بشرى، وهي تأتي على نحو مفاجئ ينقذ القصة من السردية ويجعلها قصة جيدة. غير أن الجزء الأول فيه إطالة ويمكن حذف العديد من الجمل التي لا تخدم الحدث الأساسي.
يضاف إلى القصة أنها تقدم لمحة من حياة المهمشين في مجتمعنا بطريقة تلقائية وسرد جذاب. لكن الذي لا يغتفر لمديحة، وهي عضو نشط في الورشة، أنها لا تبذل أي مجهود لإصلاح الأخطاء اللغوية الفادحة المنتشرة في القصة.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة