أجاثا كريستي لم تكن مجرّد كاتبة بوليسية، وإنما كانت فيلسوفة، تهتم كثيرا بالمشاعر الإنسانية ونزعات النفس البشرية، وتجيد تحليلها والتعامل معها، والتعبير عنها في كتاباتها، عبر إيقاع عبقري مدهش.. ولكل فيلسوف شطحاته.. لذا، فذات يوم، وبلا أية مقدمات، اختفت أجاثا.. اختفت، دون أن تترك خلفها أي أثر.. وانقلبت الدنيا.. زوجها، والصحف، ووسائل الإعلام، وسكوتلاند يارد كلها، انقلبت رأسا على عقب.. وبدأت عملية بحث بريطانية شاملة عن أجاثا.. أسبوعان كاملان، وبريطانيا كلها تبحث عن أجاثا.. قبل أن تتفجّر المفاجأة.. لقد اختفت أجاثا بإرادتها.. اختفت؛ لتعيد تقييم نفسها وموقفها، وكما أعلنت رسميا، فقد فعلت هذا؛ لتحقيق هدفين رئيسيين.. الحصول على العزلة اللازمة، التي ينشدها دوما كل فيلسوف.. واختبار مهارة الشرطة البريطانية.. فالمدهش أن أجاثا لم تبذل الكثير من الجهد للاختفاء.. فقط سكنت حجرة بسيطة، في بنسيون صغير، وباسم مختلف.. ولقد تساءلت أجاثا بعد أن ظهرت بإرادتها، لو أنها مجرم يسعى للاختفاء، فكيف ستعثر عليه شرطة عجزت عن العثور عليها وهي تملك كل هذه الشهرة؟!.. ويقول البعض إن هذه التجربة لم تغيّر كثيرا من طبيعة أجاثا.. وهذا مستحيل!.. تماما.. ليس لأنها أجاثا كريستي، ولكن لأن أية تجربة، في حياة أي فيلسوف، تعني حتما إضافة جديدة، وتغييرا حتميا.. وهذا التغيير بدا واضحا في كتابات أجاثا.. فبعد أن كانت مس ماربل العانس البريطانية الفضولية، هي الشخصية الرئيسية في كتاباتها البوليسية، ابتكرت أجاثا شخصية مخبر بلجيكي خاص، وهو هيركويل بوارو، وصار الشخصية الرئيسية لها، والتي اشتهرت بها عالميا، والتي تمّ إنتاج عدة أفلام ومسلسلات تليفزيونية لها.. لقد أعلنت، وبدون ضجّة، وبأسلوبها الفلسفي الخاص، أن البريطانيين، أيا كانت هويتهم، غير مؤهلين لحلّ الألغاز البوليسية، ولهذا أتت لهم ببلجيكي ليفعلها.. ولقد حذت أجاثا حذو آرثر كونان دويل، في إنهاء كتاباتها بمصرع بطلها، وحتى لا تضطرّ للعودة، مثلما اضطر كونان دويل، فقد كتبت روايتها الأخيرة، التي لقي فيها بوارو مصرعه، وطلبت عدم نشرها، إلا بعد وفاتها.. وهذا ما حدث بالفعل.. وفي روايتها الأخيرة فعل بوارو ما كان من المستحيل في حياتها أن يفعله.. لقد ارتكب جريمة قتل.. ومن أجل العدالة.. تابعت كل هذا في حداثتي، وشغفت به، وامتزج كل هذا برغبتي في أن تكون هناك شخصية عربية، تمنحنا كل هذه الإثارة، بتقاليد عربية، وبتجربة شخصية، مررّت بها في سنتي الجامعية الأولى.. ووضعت أول تركيب للشخصية التي حلمت بها.. في البداية، كانت شخصية بوليسية، وليست مخابراتية، ولم يكن اسمها مماثلا لما ظهرت به بعدها.. حتى الرواية الأولى، التي كتبتها تحت اسم رجل المستحيل، لم تكن تشبه، في أي من أجزائها، ما صدر بالفعل.. ولكن، ومع نهاية دراستي الجامعية، كانت دور نشر عديدة قد نجحت في دفعي لتأجيل الفكرة تماما! برفضها الحاد والعنيف للرواية التي كتبتها.. وفي تلك الفترة كان أوّل لقاء مع زوجتي.. كانت قد التحقت بكلية الطب، في نفس عامي الأخير فيها، وكانت صديقة لشقيقتي، التي طلبت مني سؤالها عما تحتاج إليه، ومساعدتها في التكيّف على طبيعة الكلية.. وكان هذا السؤال هو البداية.. بداية ارتباط استمر لمدة عام، حتى صدرت نتيجة البكالوريوس.. فور ظهور النتيجة، هرعت لأبلغ والدي بنجاحي، ثم ارتكبت خطأ كبيرا للغاية.. فقبل حتى أن يبتسم فرحا، صدمته برغبتي في الزواج من زميلة لي.. والواقع أنها كانت صدمة لم أدرك مداها، إلا عندما أصبحت أبا، عانى الكثير حتى يشهد لحظة تخرّج ابنه.. ففي تلك اللحظة يشعر الأب بأنه قد بلغ أخيرا نهاية مرحلة طويلة.. مرحلة من العناية.. والدراسة.. والقلق.. والخوف.. وأحيانا من معاناة مادية شديدة.. ثم فجأة، وقبل أن يستقرّ شعوره بنهاية الرحلة، يفاجئه ابنه بأنه سيبدأ معه رحلة جديدة.. رحلة عنيفة.. طويلة.. مرهقة.. وللغاية.. فعلى الرغم من أن والدي كان محاسبا شهيرا في طنطا، إلا أن دخله -بمقاييس تلك الأيام- كان يكفي بالكاد لتربية ولد وثلاث بنات، اقتربت رحلة زواجهن أيضا.. لم أدرك كل هذا لحظتها، ولم أقدّر مدى ثورة وغضب والدي، في يوم إعلان نتيجتي، ونهاية رحلة التعليم.. لم أدرك يومها، وما زلت نادما على عدم إدراكي هذا، حتى يومنا هذا.. فوالدي -رحمه الله- كان رجلا طيب القلب، كثير الهموم والمشكلات، ولطيبته واتساع قلبه، كان الجميع يلجؤون إليه في مشكلاتهم ومتاعبهم.. وكان يسعى دوما لمحاولة حلها.. وكان هذا يرهقه نفسيا.. وبشدة.. ومع الأسف لم نكن نحن نضع هذا في اعتبارنا.. أبدا.. المهم أن والدي قد ثار.. وثرت.. كان غضبه شديدا.. وكان توتري عنيفا.. وانتهى الأمر إلى أن يوم تخرجي، صار يوما سيئا في نظر والدي -رحمه الله- وصار بداية لخلاف شديد، استمر شهرا كاملا.. خاصة أن والدي كان يختلف معي في المبدأ الأساسي.. هو -رحمه الله- كان يرى أن الرجل لا ينبغي أن يفكر في الزواج، إلا عندما يصبح مستعدا لهذا، ماديا ووظيفيا ومعنويا.. وهو رأي له وجاهته، وكان يستحق مني التروّي والتفكير.. ولكن كان لي -يومئذ- رأي آخر.. كنت أرى أن الزوجة المناسبة أكثر أهمية من الوقت المناسب.. قد تجد من تتوافق معه، وتسعد بوجوده، وتجد الراحة في أحاديثه ومناجاته، والمتعة في الاستماع إليه، في وقت لم تتوافق ظروفه بعد مع الزواج.. ثم يأتي الوقت المناسب، وتكون مستعدا للزواج، ثم لا تجد من تتوافق معه.. وهذا يطرح السؤال المحيّر.. أيهما أكثر أهمية.. الشخص المناسب.. أم الوقت المناسب؟! سؤال ربما حسمته داخلي الآن، ولكن أيامها خضت من أجله واحدة من أصعب وأشقّ مراحل حياتي.. على الإطلاق. لقراءة أعمال د. نبيل فاروق السابقة اضغط هنا